الانغلاق السياسي الدولي والإقليمي أمام القضية الفلسطينية، المترافق مع استباحة دولة الاحتلال للحقوق الفلسطينية الفردية والجمعية، هذا الذي حدث ويحدث منذ سنوات، أطاح بمنظومة التفكير السياسي التي اعتقد أصحابها بأن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية ممكن تحقيقه من موقع الاعتدال والمناشدة والشكوى، قافزين عن قانون المصالح وقانون القوة المتبعين والناظمين للصراع من قبل النظام الدولي.
النتيجة المنطقية لتجربة سياسية طويلة ومريرة، تقول لا حصة للضعفاء على موائد الكبار وأنصاف الكبار.

اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	14cf0259d41e541ad5bac73e7684a453.jpg
المشاهدات:	129
الحجـــم:	76.8 كيلوبايت
الرقم:	2618



وبما أننا ضعفاء جداً مادياً ولا نملك القوة العسكرية بكل مستوياتها، فمن الصعوبة بمكان اجتراح حل ينهي الاحتلال. بمعنى آخر لا يوجد أفق للخلاص النسبي، فالذين راهنوا على أوباما وبخاصة بعد خطابه في جامعة القاهرة، فقدوا كل مبرر للرهان على هيلاري كلينتون إن نجحت، وبالتأكيد ينعدم الرهان على «ترامب»، أما ساندرز فلن يشذ عن القاعدة برغم موقعه الاشتراكي الحالم.


لم يعد أمامنا غير الاستثمار في «رأس المال البشري الفلسطيني»، باعتباره القوة الوحيدة التي تملك مقومات بناء عناصر القوة، لإفشال العملية الكولونيالية الماضية في تفكيك المجتمع الفلسطيني وتحطيم مقومات تحرره وتقرير مصيره.


ولتعزيز صمود الشعب في وطنه الذي لا يوجد له وطن سواه، وللانتقال إلى الهجوم السياسي، كنا دائما بحاجة للاستثمار في رأس المال البشري، لكن المستوى السياسي استخدم هذا «الرأسمال» عند الحاجة وأدى الاستخدام من طرف واحد إلى إهدار أهم ما نملك.


احتجاجات المعلمين غير المسبوقة شمولاً وقوة، كشفت الخلل في الاستثمار المنوه عنه أكثر من أي وقت سابق، بينت هشاشة الاهتمام الرسمي بهذا القطاع الحيوي الذي يتحكم في مليون وربع المليون من جيل المستقبل.


قيمة ما جرى ويجري من حراك المعلمين هو التفاعل المجتمعي وحوار النخب وتداول الأفكار والحلول.


إن تحول حراك المعلمين إلى حركة اجتماعية وقضية رأي عام يعتبر من أهم الإنجازات التي لها مغزى عميق يمكن البناء فوقه.


بدءاً بإزالة الغبن عن المعلمين في الأجور والعلاوات، وتحويل وظيفة المعلم إلى أحد أهم الوظائف في المجتمع، وجعل قطاع المعلمين في الموقع المعنوي اللائق برسالته التربوية، وإعادة بناء شخصية المعلم التربوية الواثقة والموثوقة، وبناء الثقة بين هذا القطاع وبين الطلبة والأهالي والمجتمع، وكل هذا يثلج الصدر.


الإنجاز الذي يحتاج إلى استكمال ولا يقل أهمية عن إزالة الغبن هو استقلال المؤسسة النقابية مهنياً، دون المس بالانتماء السياسي والوطني.
قد يكون فك الارتباط المهني عن التنظيمات السياسية حديث العهد في تجربة منظمة التحرير بتنظيماتها المختلفة، ولكن لا مناص من فعل ذلك.
لقد انقضت عقود طويلة وكانت الاتحادات الشعبية والمهنية والمنظمات النسوية والشبيبية تحت سيطرة التنظيمات السياسية، وشيئا فشيئا اقتصرت وظيفة الاتحادات والمنظمات على الانتماء السياسي والدعم والغطاء السياسي. وكان هذا التحول على حساب دورها الاجتماعي والمهني الذي أخذ يتقهقر ويذوي وصولاً إلى حالة من الشلل.


أكبر دليل على تعطيل التنظيم للدور المهني هو استنكاف المعلمين في قطاع غزة طوعاً وإجباراً عن المشاركة في الإضراب والحراك الذي شل العملية التعليمية في الضفة الغربية مع أنهم يعيشون الغبن ذاته ولديهم المطالب ذاتها والحاجة عينها، السبب يعود إلى المرجعية السياسية وهي في هذه الحالة (حماس) التي لا تسمح بالإضراب والحراك وتمنعهما في قطاع غزة في الوقت الذي تشجعهما في الضفة الغربية، ولهذا السبب التزم أو أُلزم المعلمون المنتمون لحركة حماس بمواقف تنظيمهم، وكان هذا موقفاً انقسامياً بامتياز كان له تأثير معنوي سلبي يحتاج إلى مراجعة، لكنه وضع حركة حماس في حالة انفصام لا تحسد عليها.


هكذا، شهدت الاتحادات والمنظمات طغيان السياسي على الاجتماعي والمهني في إطار قبضة محكمة، اعتمد فرضها على نظام الكوتة -المحاصصة، الذي ينحاز في التمثيل والانتخاب إلى أعضاء التنظيمات بمعزل عن قدراتهم وكفاءاتهم في تمثيل الجسم القطاعي والدفاع عنه.


وبفعل ذلك انفصلت البنية التنظيمية للاتحادات والمؤسسات عن قاعدتها الشعبية التي من المفترض أن تمثلها، وتحولت الانتخابات إلى طقس من التنافس غير المبدئي، تستخدم فيه التسهيلات بما في ذلك دفع الاشتراكات أثناء الانتخابات مرة واحدة ونيابة عن جسم الكتلة الانتخابية، ويفرغ الاتحاد أو المنظمة من مضمونها، وتسود رتابة قاتلة في حالة غياب طرف منافس.


في ظل هذه الأوضاع وتحت ضغط انفجار القاعدة الشعبية (حراك المعلمين) هل يمكن الاستمرار في قواعد اللعبة النقابية ؟ لا قاطعة، قالها المعلمون في حراكهم واحتجاجاتهم.


عمليا لم يعد بالإمكان هندسة الاتحادات وأجسامها قابلة للانفجار، لا يمكن العودة إلى ذلك الأسلوب الغابر الذي يتم فيه طبخ النتائج في غرف المسؤولين التنظيميين المغلقة.


لا يمكن لاتحاد أو نقابة يدافعان عن رب العمل (الحكومة) وفي الوقت نفسه يدعيان أنهما يمثلان العاملين.


كيف يمكن حل التناقض؟ كيف يمكن أن يكون اتحاد مهني أو شعبي مستقلاً مهنياً وفي نفس الوقت ملتزماً وطنياً وسياسياً بالبرنامج الوطني وبالقوى الوطنية.
في كل الأحوال لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء إلا بشكل تعسفي.


ما سبق مهم، غير أن الأهم الذي يجعل لكل تقدم في مجال التعليم معنى ووظيفة هو «جودة التعليم» التي ترتبط بمنهج ناقد ومبدع يُفَعِّل العلوم والمعارف في المجتمع، ويدفع بعجلة التنمية البشرية إلى الأمام.


هذا يحيلنا إلى المنهج المعمول به، وإلى الجهاز الإداري في التربية والتعليم، وإلى طاقم التعليم، وأولويات الموازنة وحفز الموارد من داخل المجتمع.
تلك العناصر الأساسية المسكوت عنها تحتاج إلى تطوير نوعي وجدي، كي نتمكن من تفعيل الجيل وإشراكه في تدعيم ركائز تماسك وصمود المجتمع وفتح الأبواب أمام تطوره.


ما سبق يحتاج إلى هيئة خبراء ومستشارين من ذوي الاختصاص، ويحتاج إعادة النظر بالمنهج المعمول به واستبداله تدريجياً بمنهج حداثي، وإلى تدريب أطقم جديدة من المعلمين والمعلمات.


يحتاج إلى فصل المدارس عن المساجد والكنائس وعدم الخلط بينهما، فلكل منهما وظيفة مستقلة عن الأخرى، ما يستدعي فصل العلوم عن الدين، وحظر التكفير والتكفيريين وثقافتهم الداعشية داخل المدارس وجهاز التربية والتعليم. للأسف، جرى إغفال «جودة التعليم» في حراك واحتجاجات المعلمين، بحجة أن الوقت لم يحن بعد لمعالجة هذه القضية، أو أنه لا يوجد مشكلة مع أن مستوى جودة التعليم الهابط هي مشكلة المشاكل.

مقال لمهند عبد الحميد، للمزيد إضغط هنا