انها الشمس التى تنساب أشعتها من خلف ستائر الغرفة لا .......... بل انها نيران الحرائق والانفجارات ..... آه ما هذا انه قصف جديد , أين أنت يا عمر .... عمر .... انه لا يرد أين ذهب ؟ !!!! أنا لا أجد أحدا حولى ـ ما هذه الغرفة النظيفة الهادئة ألست فى نفس المكان ؟!!!!! أم أننى ... ؟ آه أشعر بألم رهيب فى رأسى صداع شديد !!!!!
· صباح الخير يا دكتور , الحمدلله على السلامة , انت اليوم أفضل بكثير
· أين أنا ؟
· أنت فى وطنك وبين أهلك لا تخف اطمئن فقد مرت الأزمة
· وطنى ؟!!!! أين أهلى ؟!!!! هل أنا ..... اتركنى ارجوك اتركنى انهض كى اساعدهم هناك الكثيرون تحت الأنقاض اتركنى الآن هيا ( ويحاول النهوض بكل قوته المتهالكة ويقاوم بشدة الا ان الطبيب يعود فيمسكه قائلا )
· يادكتور احمد اهدأ أرجوك انت فى مصر لقد عدت منذ أيام مصابا وحالتك لا تسمح بالحركة مطلقا ( يهدأ د.أحمد ويسأل )
· مصر متى عدت وكيف لم اشعر بشىء من ذلك ؟
منذ أربعة ايام ونحن والله نقدر شجاعتك ونغبطك على تلك التجربة الرائعة والخطوة العظيمة ليتنا جميعا كنا معك
يجهش صاحبنا بالبكاء وينخرط فى حالة من الانهيار الشديد بينما يحاول زميله تهدئته ( يستدعى الطبيب ممرضا )
· احضر حقنة مهدئة بسرعة .( ويذهب صاحبنا فى نوم طويل ثم يفيق من جديد )
ياالله ها أناذا مرة اخرى فى نفس الغرفة لكن المنظر مختلف , انها ظلمة الليل . لقد أتى اليل فهنا الناس ينامون وينعمون بالسكون وهناك لا نوم ولا سكون فظلام الليل يشبه لهيب الصباح وحرارة الظهيرة هى هى حرارة النجوم فهناك لا شمس ولا نجوم بل قنابل وقذائف وفسفور يضىء الليل تماما كما يضىء النهار
هاتان اليدان لا زالت تشعر بالأطفال وهى تلفظ أنفاسها وأنا عاجز لا يقدر صوتى على جلب مساعدة ولا تستطيع المساعدات مهما كانت أن تسعفهم
مازال بكاء الصغار يخرق سمعى ويمزق ضلوعى آآآآه يا قلة حيلتى وضعفى
( طرق على الباب , ثم يدخل طفلان جميلان تفوح منهما روائح العطور الثمينة وبيعث منظرهما فى القلب كل البهجة والفرح )
يركضان بكل لهفة وسعادة وشوق نحو السرير الذى ينام عليه صاحبنا )
· بابا.....بابا حبيبى ...لقد أوحشتنا جدا ها انت هنا نحن سعداء جدا
تلحق بهماسيدة فى منتصف العمر ترتدى ملابس فخمة وتتقدم فى ثبات وهدوء ثم تقترب منه بلطف وقد امتلأت عيناها حنانا واعزازا قائلة :
· الحمدلله على سلامتك يا أحمد انشغلنا عليك كثيرا ولكن الحمدلله...... كيف حالك ؟
· الحمدلله
· يلتفت لينظر الى طفليه بحنانه المعهود ورأفة قلبه المعروفة
· هل أحضرت لنا الحلوى يا بابا كما وعدتنا .؟؟
يبتسم ابتسامة باهتة ويمسح على راس صغيره ثم يضيع فى شرود طويل ..............فهو لا يشم الا رائحة الدماء والموت والقتل ودخان القذائف والبارود لا يسمع الا صوت المكبرين والمهللين وقد اختلط بأصوات المستغيثين والالجرحى فالكون هناك اما جريح يحمد الله او شهيد يشهد لله أو مقاتل يعاهد الله على قتال أعداء الله
هنا تغيرت وجهة نظر الدكتور أحمد كامل فى حياته التى كانت تمتلىء بالعمل والنجاح والسعادة فهو من طالب متميز الى جراح ماهر وزوج ناجح اما الأن فقد تغيرت الدنيا كلها
هنا تعلم ان للحياة معان أخرى وللموت طرقا أخرى وللوجود مغزى آخر هو منذ عزم على الاتجاه نحو المعبر والانتظار مع صاحبه ورفيق عمره الدكتور عمر الذى أقنعه بالانضمام لقوافل الاغاثة ومنذ تعلم الصبر هناك حتى اذنوا لهم بالدخول وهو يرى الدنيا بعينين أخريين فلم يعد العمل
هو استقبال زوار بالعيادة المكتظة ولا جراحات ولا حتى حوادث انها الأشلاء والضحايا والنيران من كل مكان وهاهو الآن جريح ومصاب بانهيار عصبى حاد
· بابا .............بابا الا تسمعنى ؟!!!!!!!!!! بابا أجبنى ..
انه يسمع من ينادى بابا.... طفلة سقط أبوها بجوارها شهيدا وهى وحدها فى الظلام الرهيب
· بابا أين كيس الحلوى ؟!!! اين منزلنا !!!!!!!!!
انه لا ينساها فلقد وجدها على قارعة الطريق ذات ليلة ترتجف من البرد أم من الخوف أم من الظلام ؟!!!! لا يهم فهى فى كل الأحوال فقدت كل شىء حتى الأب الذى كان آخر آمالها قصفته اسلحة الغادرين .
اقترب الدكتور أحمد برفق فهو لا يكاد يتبين معالمها وأخذ يتحدث اليها حتى تهدأ فهى فى مثل عمر ابنته تقريبا وهى لا ترى شيئا منه يا عمر ...... اين أنت يا عمر .....
تعال هنا حالة حرجة .....
مازالت الطفلة تبكى رفعها برفق كى يضعها فى عربة الاسعاف , كى يبتعد بها عن مشاهد الدماء وجثة أبيها التى لم تعد تجيب على تساؤلاتها ولا على نداءات لسانها وقلبها الصغيرين.
ويال هول ما وجد الدكتور أحمد لقد فقدت الطفلة ساقيها أيضا مع أبيها فهى تبكى ألما على ألم وربما لم تدرك ما أصابها فأبوها اهم من ساقيها المقطوعتين كان ذلك آخر ما يتذكر الدكتور أحمد قبل أن يقصف المكان من جديد ويجد نفسه على السرير فى المستشفى التى لا تشبه
تلك التى عمل بها أسابيع ماضية
· بابا بابا ....هل تسمعنى .....
يلتفت الى ابنته ويذرف دمعة أخيرة ويقربها اليه ثم ينطق كلمات لم يقل بعدهن شيئا كثيرا
· سأذهب لأعود لك بالحلوى وكل ما تحبين أريدكى أن تكونى وأخوكى أفضل الناس ماشى يا بابا ؟!!!!
· حاضر بابا بس جيب عروسة كمان
سألته زوجته ..... أين ستذهب يا أحمد أنا لا أفهم
· عائد الى غزة
صمت الجميع وعلى وجوههم ابنسامة أمل لغد ملىء بالحلوى ............