ولعل من المناسب هنا ذكر القصة الواقعية التالية التي حصلت في أحد الشركات في بلد نامي ما وتدل على أهمية المراجعة الدورية وضرورة التفكير فيما نقوم به من أعمال رتيبة ، وقد بدأت القصة عندما قام أحد المستشارين في الشركة بمراجعة أنشطة ومهام أحد الأقسام في الشركة حيث يقوم العاملون في هذا القسم بتسجيل كافة البيانات المتعلقة بقطع الغيار المستوردة في دفاتر للتسجيل يتم حفظها بصفة دورية رتيبة وعند سؤال العاملين لماذا يقومون بهذا التسجيل ؟ كانت الإجابة التقليدية بعد قليلاً من الحيرة والذهول إنه طلب منا القيام بهذا العمل منذ التحاقنا بهذا القسم وعليك سؤال المشرف فهو أدرى بالسبب . وكانت المفاجأة تكرار الحيرة والذهول لدى مشرف القسم ، وبالتحري والاستقصاء لمعرفة جذور هذا العمل اتضح أن هذه الشركة قد ورثت نظامها الإداري من قبل شركة أجنبية ينص النظام في بلدها أن يتم التسجيل بهذه الصورة ليتم مراجعة وفحص هذه السجلات بصفة دورية من قبل موظفي مصلحة الضرائب بتلك البلد ،بينما في بلد هذه الشركة المذكورة لا توجد ضرائب ، أو محصلي ضرائب وهنا يمكن التخيل عن مدى الهدر في الوقت والجهد والقوى البشرية الذي نجم عن هذه الممارسة الروتينية والتقليدية للأعمال والمسؤوليات دون مراجعة أو إعادة تفكير ، وهو ما تسعى الهندرة إلى تحقيقه ليقوم العاملين بأداء الأعمال الصحيحة والمفيدة وبالطريقة الصحيحة التي يريدها العميل ويتطلع إليها ، كما أنه من المناسب هنا ومع الحديث عن الهندرة أن يتم التطرق إلى أحدقوا عد الفكر الإبداعي وهي قاعدة الخروج من الصندوق والتي تحفز العاملين إلى الإبداع في أعمالهم والتخلص من قيود التكرارية والرتابة والنظر إلى الأمور المحيطة بأعمالهم بنظرة شمولية تساعد على تفجير الطاقات الإبداعية الكامنة في كل فرد منهم .
إن رياح التغيير التي تجتاح عالم الأعمال اليوم هي الدافع والمحرك الحقيقي لمشاريع الهندرة في العالم أجمع ، وقد أظهرت نتائج مسح عالمي شمل عدد كبير من التنفيذيين في الشركات العالمية تم خلال التسعينات أن الهندرة كانت على رأس قائمة الجهود التي بذلتها الشركات والمنظمات المختلفة لمواجهة المتغيرات التي تجتاح السوق العالمية ، ويكفي أن نعرف أن مجموع ما صرفته الشركات الأمريكية فقط لمشاريع الهندرة خلال هذا العقد قد تجاوز الخمسين مليار دولار أمريكي ، وهو استثمار كبير قامت به الشركات لقناعتها بأن العائد على هذا الاستثمار سيكون أكبر بكثير وهو ما تحقق فعلاً لكثير من الشركات . ولا عجب أن قيل أن التغيير ثابت وهي جملة صحيحة وصادقة بكلمتين متناقضتين في التغيير شمل كل جوانب الحياة العملية ابتداء من العميل ومروراً بالمنافسين وانتهاء ببيئة العمل المحيطة ، ففي ما يخص العميل أو الزبون كما يسميه البعض لا يختلف اثنان أن عميل اليوم ليس عميل الأمس ، فعميل اليوم كثير المطالب واسع الإطلاع ، صعب الإرضاء ، سهل الفقدان ، إرجاعه والاحتفاظ به مكلف وما هذا إلا نتيجة طبيعية للثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي زادت من ثقافة العميل بالمنتجات والخدمات من حوله كما أن المنافسة الشديدة في أسواق .
اليوم أصبحت الحاجة إلى التغيير المستمر ضرورة من أجل البقاء والاستمرار .
أما رياح التغيير التي تجتاح بيئة وأسواق العمل محلياً ودولياً فهي أشد وأشد ، فالعولمة واتفاقيات التجارة الحرة والتوجه إلى الخصخصة وحرب الأسعار وقصر عمر المنتج والخدمات في الأسواق نتيجة التطوير والابتكار المستمر يجعل الطريق صعباً أمام الشركات التقليدية والرافضة للتغيير نحو الأفضل . وهنا تبرز أهمية الهندرة كأحد الأساليب الإدارية والهندسية الحديثة التي تساعد الشركات على مواجهة هذه المتغيرات وتلبية رغبات وتطلعات عملائها في عصر لا مكان فيه للشركات والمنظمات القابعة في ظل الروتين والبيروقراطية الإدارية مع النظر إلى العملاء من برج عاجي مكدس بالأوراق والمعاملات والإجراءات المطولة التي أكل الدهر على بعضها وشرب .
تعريف الهندرة
كلمة الهندرة قد تبدو غريبة على أسماع الكثير، فالهندرة كلمة عربية جديدة مركبة من كلمتين هما (هندسة ) و(إدارة) وهي ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Business Reengineering ) والذي يعني إعادة هندسة الأعمال أو إعادة هندسة نظم العمل . وقد ظهرت الهندرة في عام 1992م عندما أطلق الكاتبان الأمريكيان مايكل هامر وجيمس شامبي الهندرة كعنوان لكتابهما الشهير (هندرة المنظمات ) ومنذ ذلك الحين أحدثت الهندرة ثورة حقيقة في عالم الإدارة الحديثة بما تحمله من أفكار غير تقليدية ودعوة صريحة إلى إعادة النظر وبشكل جذري في كافة الأنشطة والإجراءات والإستراتيجيات التي قامت عليها الكثير من المنظمات والشركات العاملة في عالمنا اليوم .
لقد عَرف هذان الكاتبان الهندرة بأنها البدء من جديد أي من نقطة الصفر وليس إصلاح وترميم الوضع القائم .
وأما (رونالد راست ) فقال : " أن الهندرة هي إعادة تصميم العمليات بشكل جذري بهدف تحقيق طفرات كبيرة في الأداء".
ويصادفنا أيضاً تعريفات أخرى للهندرة :
( الهندرة هي إعادة التفكير بصورة أساسية و إعادة التصميم الجذري للعمليات الرئيسية لتحقيق نتائج تحسين هائلة في مقاييس الأداء العصرية : الخدمة و الجودة والتكلفة وسرعة إنجاز الأعمال ) .
وتعرف هندسة التغيير أيضاً بأنها: "إعادة تصميم جذري وسريع للعمليات الإستراتيجية والتي لها قيمة مضافة ، وكذلك إعادة التصميم الجذري والسريع للنظم والسياسات والهياكل التنظيمية التي تساعد العمليات وكل ذلك للوصول إلى انسياب العمل بأعلى مستوى من الإنتاجية وفق معايير الجودة العالمية" .
أو هي : " إعادة نظر أساسية وإعادة تصميم جذرية لنظم وأساليب العمل لتحقيق نتائج هائلة في مقاييس الأداء العصرية مثلا لتكلفة ، السرعة ، الجودة ومستوى الخدمة" .
وبنظرة سريعة إلى هذه التعاريف نرى أنها تركز على أربع نقاط أساسية يمكن تلخيصها بما يلي :
1- أساسية
وتعني ببساطة أن الوقت قد حان لكي تعيد كل شركة وكل فرد وعامل بها النظر في أسلوب العمل المتبع ومراجعة ما يقومون به من عمل وسؤال أنفسهم: لماذا يقوموا به ؟ وهل هذا العمل ذو قيمة للعملاء والشركة ؟ وهل يمكن أداءه بطريقة أفضل ؟ كل هذه الأسئلة يطرحها مبدأ الهندرة بأسلوب ومفهوم علمي يساعد الشركات في الوصول إلى إجابات شافية لهذه الأسئلة الهامة .
2- جذرية تتضمن الهندرة حلولاً جذريةً لمشاكل العمل الحالية وهو أمر تميز به أسلوب الهندرة عن غيره من المفاهيم الإدارية السابقة التي كانت في معظمها تسعى إلى حلولاً عاجلةً وسطحيةً لمشكلات العمل ومعوقاته . وبالتالي "فإن إعادة التصميم الجذرية تعني التغيير من الجذور وليس مجرد تغييرات سطحية أو تجميلية ظاهرية للوضع القائم ، ومن هذا المنطلق فإنها تعني التجديد والابتكار وليس مجرد تحسين أو تطوير أو تعديل أساليب العمل القائمة".
3- هائلة"الهندرة لا تتعلق بالتحسينات النسبية المطردة والشكلية ، بل تهدف إلى تحقيق طفرات هائلة وفائقة في معدلات الأداء". ولقد حققت الشركات التي طبقت مفهوم الهندرة بنجاح نتائج هائلة في نسبة تحسين الدخل والأرباح وزيادة الإنتاجية وتقليص الزمن اللازم لإنجاز العمل وتقديم خدمات أفضل للعملاء ، وتضمنت كتب الهندرة المختلفة الكثير من تجارب الشركات التي طبقت الهندرة بنجاح والنتائج الهائلة التي حققتها هذه الشركات في مجالات متعددة .
4- العمليات
يتميز مبدأ الهندرة بتركيزه على نظم العمل أو ما يعرف بالعمليات الرئيسة للشركات والمؤسسات المختلفة وليست الإدارات ، إذ تتم دراسة و هندرة العمليات بكاملها ابتداء من استلام طلب العميل إلى أن يتم إنجاز الخدمة المطلوبة . ولذلك فالهندرة تساعد على رؤية الصورة الكاملة للعمل وتنقله بين الإدارات المختلفة ومعرفة السلبيات الاستثمارية والإدارية التي تعيق العمل وتطيل الزمن اللازم لتقديم الخدمة وإنهاء العمل .
خصائص الهندرة
@- إعادة بناء من الجذور.
@- تختلف تماماً عن أساليب التطوير الإداري التقليدي كالإصلاح والتجديد .
@- تركز على العمليات الإدارية لا على الأنشطة .
@ - تهتم بالنتائج وحاجات المستفيدين والعملاء .
@- تقوم على هيكلة العمل كوحدة كاملة .
@- تقوم على نقد أنشطة الرقابة والمراجعة بصورتها التقليدية لأن تكلفتها تفوق قيمة نتائجها .
@ - تميل للرقابة اللاحقة وتقليص ضوابط الرقابة السابقة مع خفض مستويات الرقابة والمراجعة وإتباع أساليب الرقابة الكلية .
@ - الاعتماد بشكل أساسي على تقنية المعلومات ، حيث أن استخدام تكنولوجيا المعلومات يمكن المؤسسات من الاستفادة من مزايا المركزية واللامركزية على السواء حيث أنها تمكن كل إدارة من العمل بصورة مستقلة بشكل يكون لها شبكة معلوماتها الخاصة بها وفي الوقت نفسه ترتبط جميع الإدارات بشبكة اتصال واحدة مركزية .
@- تقليل الحاجة إلى مطابقة المعلومات وذلك من خلال تقليص عدد الجهات التي تعالج مهمة واحدة معينة
@- تنفيذ العمل حسب نوع وطبيعة كل نشاط بدلاً من الأسلوب التقليدي وهو ترتيب الخطوات المتتالية للعمل .
@- دمج عدة وظائف في وظيفة واحدة وذلك في حالة الوظائف ذات الطبيعة الواحدة والمتقاربة .
@- اشتراك الموظف في اتخاذ القرارات المتعلقة بالوظيفة فهو لم يعد مجرد منفذ ولكنه مشارك ومسئول
@- تقليل المركزية وتقليل الإجراءات اللازمة للعمل (مثل قيام الإدارة المعينة بشراء احتياجاتها السريعة بدلاً من مخاطبة إدارة المشتريات) .
@- تعدد خصائص العمليات حيث أصبح الإنتاج والخدمات متعددة