"جودة التعليم وآفاق التنمية البشرية"أصبح من المؤكد اليوم أن ثروة المجتمع لا ترتكز على ما يخزنه من موارد طبيعية و مادية فقط و إنما تشمل موارده البشرية أيضا و أن العنصر البشري هو أساس النهضة و التطور المادي للمجتمع. لذلك فإن سياسات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية الناجحة هي التي تقوم على حسن استغلال و استثمار للعنصر البشري في المجتمع. و ترجع الكثير من المدارس الاقتصادية و الاتجاهات السوسيولوجية ظاهرة تخلف المجتمعات إلى عدم الاهتمام بالفرد و تنمية قدراته و استثمارها في حل مشاكل و معوقات المجتمع. يعتقد كوزنتر أن الاستثمار في العامل البشري يعد من العوامل الهامة في تكوين رأس المال في المجتمع و هو يدعو إلى " توسيع إطار مفهوم رأس المال ليتضمن أيضا الاستثمار في الصحة و التعليم و التدريب، أيضا لكي يتضمن الاستثمار في العنصر البشري" (غادة قضيب، 1994). اماالمفكر الاقتصادي نادر فرجاني فيرى أن الاستثمار يقع في البشر أساسا من خلال التعليم مولدا رأسمال جوهريا للأفراد و الأسر و المجتمعات، على صورة اتجاهات ايجابية، و معارف و قدرات. و في الآونة الأخيرة تبلورت مفاهيم عديدة كلها تسعى إلى المساهمة في التنمية البشرية بطريقها الخاصة:من ذلك مفهوم:
رأس المال الاجتماعي social capital الذي يهتم بالبحث في انساق العلاقات الاجتماعية ، رأس المال الفكري intellectuel capital و هوالذي يضع الفكر و الإبداع مركز اهتمامه و رأس المال الثقافي Cultural Capital و هو أرقى أشكال رأس المال الإنساني. ( نادر فرجاني 1998).
من هنا ينبع الاهتمام الفائق بالتعليم في جميع مراحله الابتدائية و المتوسطة و الثانوية حتى المرحلة الجامعية. بحكم انه مصدر الطاقة البشرية و مكون فعال لرأس المال الاجتماعي و الفكري و الثقافي للفرد. لقد أولى الاقتصاديون و الاجتماعيون و كبار المفكرين أهمية بالغة للفرد المتعلم كعنصر مفعل لدينامكية التنمية الاجتماعية و الاقتصادية، و اعتبره مالك بن نبي العنصر المؤسس للحضارة كما قد يكون سببا في انهيار الحضارة و انحطاطها "لا يقاس غنى مجتمع بكمية ما يملك من أشياء بل بقيمة ما يملك من أفكار". و إذا كانت التنمية البشرية حسب ما يعرفها المجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة هي عملية تنمية مهارات و معارف و قدرات أفراد الجنس البشري، فان الحضن الطبيعي الملائم لتحقيق هذه الخصائص هو النظام التربوي و التعليمي. فكلما ارتفعت نوعية التعليم و حقق نجاعة في إكساب أفراده هذه الخصائص و السمات كلما ارتفع مستوى التنمية البشرية، و دفع الحركية الاقتصادية و الاجتماعية إلى الأمام. لقد أجريت عدة دراسات ميدانية تبحث في العلاقة بين نوعية التعليم و مؤشرات التنمية ، كان من بينها دراسة اريك هانوشيك و دينس كيمكو (Hanushek Eric and Dennis Kimko 2003) التي بحثت الفروق الدولية في نوعية التعليم من خلال مجموعة من العوامل و أثرها في تحقيق النمو السريع و المكاسب الاقتصادية التي تعود على الدولة بعد 10 الى 20 سنة. واثبتا الباحثان وجود علاقة ارتباطية قوية بينهما (اريك هانوشيك 2005). ولقد تفطنت الكثير من الدول الى هذه الحقيقة، حيث راحت تهتم بتطوير نوعية تعليمها لضمان تنمية بشرية فعالة و قادرة على تحقيق أهدافها الوطنية. و تعتبر الدول الآسيوية من الدول التي ركزت اهتمامها على ضمان تعليم فعال و تنمية قائمة على استهداف عقل الطفل من اجل الإبداع و الابتكار و تحسيسه بالمسؤولية . حيث طورت بعض أنظمتها التربوية بما يتلاءم مع التخطيط الاستراتيجي و السياسة الوطنية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق الصدارة في العالم على المستوى الاقتصادي و التكنولوجي، كل ذلك من خلال تنمية الفرد كراس مال بشري لا يمكن تعويضه. و الدراسات العلمية كالتي قامت بها الرابطة الدولية لتقييم الانجاز التعليمي (IEA) تعطي صورة عن تقدم التعليم في دول آسيا مقارنة بالدول الأكثر تقدما . ففي سنة 1996 خضعت قرابة 500 ألف تلميذ من إحدى و أربعين دولة لاختبار حول الرياضيات و العلوم. و كانت النتائج أن الدول التي تحصلت على المراتب الأولى كانت من آسيا . و قد حافظت على نفس المراتب في دراسة 2003 .و يرجع الخبراء هذه النتائج إلى القفزة النوعية المحققة و المتمركزة حول تنمية الفرد باعتباره القوة الفاعلة لأي نهضة. و كانت خلاصة الأمر بالنسبة إليهم أن نوعية التعليم القائم على تفعيل قدرات الفرد و فتح المجال لإبراز قدراته و التعبير عن إمكانياته و إبداعاته كفيل بإحراز التنمية الفعالة على جميع الأصعدة ، لذلك يطرح بعض الباحثين فكرة " التربية من اجل الفعالية"(غياث بوفلجة 2006) ليؤكد مدى أهمية و ضرورة استنبات الفعالية و الخصائص الايجابية من خلال منظومة التربية و التعليم بغية تحقيق التنمية الشاملة. عادة ما يوصف التعليم في الوطن العربي بأنه تعليم يهتم بشحن ذهن التلميذ بالمعلومات الجاهزة و يطلب منه استرجاعها يوم الامتحان بطريقة آلية. و هذا الأسلوب في التدريس يمارس بشكل رهيب في التعليم الجامعي، أين نجد الطالب ملزما بإعادة كتابة ما قيل له سابقا. و هذا ليس حصرا على العلوم الإنسانية و الاجتماعية فقط بل ينتشر أكثر في بعض العلوم التجريبية كعلوم الطب و جراحة الأسنان و غيرها. فالطالب فيها لا يعرف إلا الورقة و القلم ليسجل ما خزنه في ذاكرته و على هذا الأساس فإن معيار النجاح في النظام التقويمي هو الطالب الأكثر حفظا و الأقدر على استرجاع ما تعلمه، و لا يهمه الطالب إلا الحصول على المعدل الذي يؤهله للقبول الى المستوى الأعلى ، دون مراعاته لنوع التكوين و درجة التحكم في المعارف فهما و تطبيقا من خلال الممارسة و التجريب و تنمية المهارات السلوكية و استراتجيات التفكير في حل المشاكل، و هذه جملة الشروط التي تساعد الطالب على مواجهة عقبات عالم الشغل و تحديات الحياة بشكل عام. انه لمن المخزي فعلا ان لا نجد أثرا للجامعات العربية في الترتيب العالمي ،و في أحسن الأحوال نعثر عليها في آخر القائمة الإفريقية هذا ما كشف عنه التقرير الدولي لترتيب الجامعات و يمكن الاطلاع على تفاصيل أكثر للأرقام المرعبة على موقعه في الانترنت (www.webometrics.com (http://www.webometrics.com/)).
الواقع ان هذا النمط من التعليم التلقيني هو في أكثر الأحوال انعكاس للحياة السياسية و الاجتماعية للبلد، حيث الرأي الواحد هو السائد و النافذ. اما في المنظومة السياسية فنجد غياب واسع للديمقراطية و حريات التعبير، أضف الى ذلك نشوء الطفل العربي في أسرة لا تعرف الا تنفيذ الأوامر و تطبيق التعليمات ، إنها الأسرة البطركية كما عبر عنها هشام شرابي، حيث يغيب فيها النقاش و أسلوب الحوار. و نفس الأجواء تعيشها المدرسة بحكم ان المعلم و المؤطرين يحمل كل منهم الخصائص البطركية للأسرة و المجتمع ليمارسوها بأسلوب أكثر حدة على التلاميذ ، فالحوار الايجابي و فتح فرص لإبداء الرأي و إتاحة الخيارات المتعددة للتلميذ امر لا اثر له في منظوماتنا التربوية و الجامعية . ان جوهر التعليم عند باولو فريري هو سلوكه طريق الثورة على القهر من اجل الوصول الى الحرية و تمكين المقهور (المتعلم) من التعبير عن قدراته و طاقاته الإبداعية التي وهبها الله له، و هذا المنهج يقوم أساسا على الحوار المتبادل و الفضاء الواسع من النقاش الثري .
يطرح فريري هذا المنهج في مقابل ما يسميه بالتعليم البنكي Banking Education الذي يكون فيه التلميذ اداة في يد المعلم يودع فيه المعلومات الجاهزة و يبرمجه بطريقة آلية على الجواب الجاهز. بهذه الصيغة يتم قتل الوعي النقدي في التلاميذ و تحكم السيطرة على عقولهم في المدارس و الجامعات.و يكون النظام التربوي بذلك قد انتج صيغا و قوالب مكررة من البشر تفتقر الى الإبداع و الحس النقدي الرصين و القدرة على التنقل بين انماط التفكير المختلفة لكون لدينا في النهاية منتوج تربوي يساهم في تكريس الوضع القائم بدلا من الشعور بالحاجة الى تغييره.
في ظل التغيرات العالمية الحالية و إفرازات العولمة ، أمام الأنظمة التربوية في العالم العربي فرص للإسراع من اجل تدارك الوضع و تغيير أنماط التعليم الجاري ليخدم الفرد الصالح ، القادر على البناء و المساهم في التغيير من اجل آفاق واسعة للتنمية البشرية .
إن تحديث البرامج و عقلنة الفعل البيداغوجي من خلال دمج و ربط التربية مع الشروط التي يفرضها المحيط الاجتماعي و الاقتصادي كفيل بتفعيل المتكونين و تأهيلهم نوعيا من اجل تحسين المردود التربوي و الاجتماعي . و من جهة أخرى فإن الانفتاح على الخبرات الإنسانية التنموية الناجحة و استغلال التكنولوجيا الجديدة للإعلام و الاتصال يزيد من كفاءة المنتوج التربوي و يجعله واثقا و قادرا على المنافسة دون الشعور بالنقص و فقدان الثقة.
بقلم : زقاوة أحمد
منقول
مواقع النشر (المفضلة)