وتتميز المدارس اليابانية بميزة أخرى غريبة الأطوار وتتمثل في الحماس الزائد لكلٍّ من الطلبة والمعلمين على السواء بخصوص تعليم القيم. ويبدي المعلمون أحياناً بشاشة وعذوبة تجعل أشد الناس تفاؤلاً يتضاءل أمامهم. وتعج الفصول بالشعارات المبهجة مثل «سنبذل ما في وسعنا في كل شيء» أو «كن نشيطاً ومرحاً وودوداً ومعيناً للآخرين»، ويضع كل طالب نصب عينيه أهدافاً يتمنى تحقيقها خلال العام.
ويعكس التركيز على الشعارات والأهداف اختلافاً أساسياً بين منظور أمريكا وآسيا للتعليم.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الآسيويين يرون أن التميز الأكاديمي أو العلمي يتأتى في المقام الأول من الاجتهاد، بينما يميل الأمريكيون إلى أن ينسبوا التفوق للذكاء الفطري. ونتيجة لذلك يحفز أولياء الأمور اليابانيون أطفالهم على الاجتهاد «والأطفال بدورهم يحفزون أنفسهم» لاعتقادهم بأن ذلك سيحقق فروقاً واختلافاً جوهرياً.
وترى إحدى هيئات البحث البارزة أن الأطفال في آسيا يبلون بلاء حسناً في المدارس، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أن أولياء الأمور يحددون لأولادهم أهدافاً كبيرة يسعى أطفالهم بعد ذلك لاستيعابها وتحقيقها، بينما يتردد أولياء الأمور الأمريكيون في تحفيز ودفع أبنائهم كثيراً للاجتهاد.
ومن ثم فأولياء الأمور اليابانيون يحددون معايير مرتفعة، بينما يكتفي أولياء الأمور الأمريكيون بمعايير منخفضة: وفي كلتا الحالتين نجد أن الأولاد مضطرون إلى الوفاء بما يطلب منهم.
ومن بين الوسائل الجــوهرية لرفــع مستوى الأطفال في اليابان في البيت والمدرسة نجد ما يســــمى بـ «هانسي» وهي كلمة ذات معان مختلفة، إذ تعني «الخزي»، أو« الاعتذار» أو «الأسف العميق». فحينما يرتكب الأطفال خطأ ما، يفترض أن يعبروا عن أسفهم العميق، وفي بعض المدارس توجد جلسات اعتذار، أما فكرة الجلسات فتقوم على مبدأ مؤداه أن اعتراف الطلبة بأخطائهم وتقصيرهم هو السبيل الوحيد للتغلب على جوانب النقص والضعف. ولذلك ينتهي كل يوم دراسي في مدرسة تاكيهار الابتدائية باجتماع للفصل وجرعة هانسي أو اعتذار.
وفي فصل الصف الثالث، أعلنت الفتاتان المراقبتان - في ذلك اليوم - عن بدء اجتماع الانصراف من المدرسة، لكن الاجتماع حفل بضوضاء وصخب شديدين فما كان من المعلم إلا أن تراجع للوراء رافضاً إنقاذ المراقبتين من ورطتهما. فقالت إحدى الفتاتين مناشدة زملاءها «من فضلكم، نرجو التزام الهدوء» وبدأت الجلبة تنخفض قليلاً، فقالت المراقبة الأخرى «دعونا نتأكد من أننا حققنا أهدافنا اليوم. هل دخلنا فصولنا على وجه السرعة حينما دق الجرس؟».
وعلى الفور رفع الطلبة أيديهم علامة الإيجاب فعاودت المراقبة السؤال «وهل قمنا بعملية التنظيف بمنتهى الجدية؟»، فجاءت الإجابة مرة أخرى بالإيجاب. وواصلت المراقبة تصفح قائمة المراجعة بيد أن الشخص الوحيد الذي على ما يبدو أنه أخطأ في مرامه كان كازوا كون الذي نسى كتابه في البيت، ومن ثم وقف كازوا كون أمام زملائه وعبر عن أسفه واعتذاره للفصل قائلاً «سأحرص على ألا أترك أي شيء في البيت منذ الآن».
والواقع أن تلك الجدية - التي لا نجدها إلا في محافل الدروس الدينية - أشبه بالتمثيلية التحذيرية التي سرعان ما تزول مع نهاية اليوم الدراسي، بل إنها تتحول إلى نوع من السخرية في مدارس الأحداث العالية. لكن هذه الجدية تعاود الظهور مرة أخرى في مرحلة البلوغ وتسود إلى حد ما في المجتمع الياباني.
وهذا هو السبب في أن التهكم لا يحقق المرجو منه غالباً في اليابان، ولا يثير الضحك، بل يثير الحيرة فقط.
ونصل إلى وسيلة أخرى من الوسائل التي تتبعها المدارس اليابانية لزرع الإحساس بالجماعة والمجتمع، وكذلك لخلق مهارات علمية غير عادية، وتتمثل هذه الوسيلة ببساطة في الإبقاء على الطلبة في الفصول لفترة أطول. ولذلك يمضي طلبة المدارس الابتدائية في جميع أنحاء شرق آسيا عدد ساعات دراسية أطول من التي يمضيها الأمريكيون في مدارسهم، ويتمتعون أيضاً بعطلات مدرسية أقل، لدرجة أن الطالب الياباني أو الصيني العادي يفوق نظيره الأمريكي في فترات الدراسة بما يوازي سنة دراسية، وذلك مع نهاية الصف السادس الابتدائي.
فعطلة مدرسة تاكيهار الصيفية - على سبيل المثال - تستمر ستة أسابيع فقط، من منتصف شهر يوليو حتى نهاية شهر أغسطس، ويمنح الطلبة واجبا منزليا لإتمامه خلال هذه الفترة.
وهناك نقطة أخرى مهمة تتميز بها المدارس اليابانية وتتمثل في القيمة العقلية للتعليم الياباني، الذي يلقى احتراماً واسعاً في الدراسات الدولية. فبرنامج دراسة الرياضيات والعلوم الدولي الثالث، الذي يقوم بمقارنة إنجازات الطلبة في 45 دولة منذ عام 1990، ويعد أحد برامج البحث الشاملة للغاية، دعا خبراء الرياضيات لدراسة السجلات المدرسية (دفاتر علامات الطلاب) لمادة الرياضيات لطلبة الصف الرابع في دول عديدة، ثم تصنيف هذه المعدلات. وقد قال الخبراء إن 30% من دروس الرياضيات اليابانية ذات نوعية مرتفعة، و57% منها متوسطة المستوى، و13% ذات نوعية منخفضة، بينما لم يجد الخبراء في الرياضيات التي تُدرس في الولايات المتحدة أي مستوى مرتفع النوعية، ووجدوا أن 13% من الدروس ذات نوعية متوسطة و87% منها ذات نوعية منخفضة!
وبالطبع هناك بعض المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة تتمتع بنفس مستوى المعلمين الممتازين، والالتزام بالتعليم الأخلاقي المتوافرين في المدارس اليابانية، لكن هذه المدارس غالباً ما تكون مؤسسات خاصة ومكلِّفة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن المدارس الابتدائية اليابانية تقدم فرصاً متساوية بشكل مميز لـ 99% من الأطفال المقيدين بالمدارس الابتدائية الحكومية، ولا توجد فروق تذكر بين المدارس الموجودة في المناطق الغنية وتلك الموجودة في المناطق الفقيرة كالذي يحدث في أمريكا.
أما أحد أسباب جودة التعليم في اليابان فتكمن في جذب مهنة التعليم لأفضل العناصر البشرية. ويظهر احترام المعلمين في اليابان في استطلاعات الرأي، حيث يحتل المعلمون مكانة تفوق منزلة المهندسين، أو المسؤولين في إدارة المدينة.
ويتلقى المعلمون أيضاً رواتب طيبة للغاية، وتفوق رواتبهم عموماً دخول الصيادلة والمهندسين، ومن ثم نجد أن هناك خمسة متقدمين لكل وظيفة تعليمية شاغرة في العام الواحد.
وعندما تعرفت على هذه الجوانب الخاصة بالتعليم الياباني، وقمت بزيارة الفصول الدراسية هناك، تأثرت بذلك للغاية. بيد أنني تحدثت مع زملائي في مسألة إلحاق ابني بمدرسة يابانية فتعرفت على رأيين، أحدهما لزملائي الأمريكيين الذين استحسنوا الفكرة واعتبروها فكرة عظيمة، والأخرى لزملائي اليابانيين الذين اعتقد معظمهم أنني مجنون. ولقد حدثتهم بأن العلماء الغربيين يعتبرون أن المدارس اليابانية الابتدائية قد تكون الأفضل في العالم بأسره، فما كان منهم إلا أن حملقوا فيّ كما لو كنت مجنوناً!
أما أعظم ما بهرني في المدارس اليابانية فلم يكن مزاياها العلمية، بل جديتها التي لم ترق للبعض. فقد تستطيع بعض المدارس الأخرى في أماكن أخرى من العالم أن تناظر المدارس الابتدائية اليابانية من الناحية العلمية، بل وقد يتمتع الطلبة في هذه المدارس بروح الجماعة أيضاً، ولكن يظل من الصعب أن تعثر على مدرسة تتمتع بنفس الروح التي وجدتها في مدرسة يوكوهاما؛ حيث قام أحد الأفراد بارتكاب حماقة استخدام بخاخ الدهان على حائط مجاور للمدرسة. فكان هذا الأمر بمنزلة ورطة ضخمة!
والواقع أن تصرف أي مدرسة أمريكية تجاه مثل هذا الأمر سيتسم إما بالتجاهل وإما بإرسال أحد الحراس لمعالجة الأمر، أما في يوكوهاما فقد تبنى المعلمون موقفاً مختلفاً يستحق أن تؤلف فيه مجلدات من الكتب، تدور كلها عن أهداف التعليم الابتدائي الياباني.
يقول كنتشي ناكامورا، مدير المدرسة «حاولنا أولاً أن نتعرف على مَنْ فعل هذا التصرف لكننا لم نكتشفه، وبدلاً من أن نواصل التحقيق إلى ما لانهاية، فكرنا في جعل المعلمين ينظفون الحائط، وقد يتعلم الطلبة شيئاً ما أيضاً من هذا السلوك. ومن ثم قمنا نحن المعلمين باختيار وقت عودة الأولاد من مدارسهم لنشرع في عملية التنظيف، وبذلك يتيسر لهم رؤيتنا أثناء مرورهم بجوار الجدار المذكور، وفي أعقاب ذلك خرجنا جميعاً وبدأنا في حك الدهان المؤذي، وقد كان عملاً شاقاً، ولكننا نجحنا في النهاية في التخلص من الدهان بعد أن انضمت إلينا حفنة من الطلبة أثناء العمل.
والواقع أنني أعتقد أن من قام برش الدهان سيشعر بالندم والأسف الشديد بعد أن يشهد ما قام به الجميع من أجل إزالة آثار فعلته الكريهة !





رد مع اقتباس

مواقع النشر (المفضلة)