التعليم الابتدائي مفتاح التفوق الياباني


بقلم: نيكولاس كريستوف - مجلة نيويورك تايمز



ما سر تفوق المدارس اليابانية الابتدائية عن مثيلاتها لدينا؟
إنها كلمة واحدة وهي «القيادة»، فالأطفال يديرون شؤون فصولهم إلى حد تنظيف الحمامات الخاصة بالمدرسة. لقد آلوا على أنفسهم أن يستفيدوا من كل شيء يتعلمونه ويجعلون منه نبراساً لهم في حياتهم وسلوكهم.

دق جرس انتهاء الفسحة المدرسية، فانطلق الطلبة بمدرسة تاكيهار الابتدائية مسرعين من فناء المدرسة نحو فصولهم؛ ليعودوا في لحظات قصيرة مدججين بالمكانس والمسَّاحات وقطع القماش اللازمة للتنظيف. وبدأ العمل على الفور في أروقة المدرسة التي ضجت بصياح الأولاد والبنات أثناء قيامهم بإخلاء المكان من مخلفات العلب الفارغة.

أما دورات المياة فنظف الأولاد جدرانها البيضاء وتسابق بعضهم فيما بينهم في مسحها بقطع القماش المبللة، وإعادة ترتيب المكان بوجه عام بعد جمع المهملات.
وحيث إن المدارس اليابانية لا يعمل بها أي بواب أو حاجب، لذا فقد أصبح على الطلبة القيام بمهام تنظيف النوافذ والأرضيات بأنفسهم. ومن ثم يُعِدُّ الطلبة - بما فيهم أطفال الصفوف الأولى - أدوات المسح والتنظيف ليقوموا بهذه المهمة كل يوم لمدة عشرين دقيقة.

بعد ذلك يدق جرس المدرسة مرة أخرى ليعلن أنه قد حان الوقت لما يسمى «بجلسة الاعتراف»، فيقوم فتى طويل نحيل من طلبة الصف السادس، ممن يتولون قيادة إحدى جماعات التنظيف، بجمع أعضاء فريقه لإجراء مناقشة بخصوص عمل فترة الظهيرة، وقد دار بينهم الحوار التالي:
q سأل قائد الجماعة فريقه قائلاً: «هل قمنا بعملنا على ما يرام اليوم؟
ط أجاب الآخرون «نعم».
ط فرد القائد «وهل أحسنا استخدام وقتنا تماماً؟».
ط أجاب الآخرون «نعم».
ط واختتم تساؤله قائلاً «وهل أعدنا كل الأدوات إلى أماكنها؟»
ط فجاءه الرد ب لإيجاب.

لكن هذا الجو المفعم بتهنئة الذات قطعه صوت ضمير إحدى الفتيات الخجولات وتدعى سيرا، وتبلغ من العمر أحد عشر عاماً، حيث قالت« الواقع أننا لم نضع المكانس في مكانها بشكل أنيق». وقد أومأ باقي الأطفال برؤوسهم مقرين بذنبهم، واكتست وجوههم للحظات مسحة من الكآبة بسبب هذا التقصير.
مما سبق يتضح لنا الجانب الذي نفتقده غالباً، ويتميز به التعليم الابتدائي في شرق آسيا. وتشتهر المدارس الابتدائية في اليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية بأنها الأفضل عالمياً بسبب أدائها العلمي المتميز. ومع ذلك فالشيء المهم، وخصوصاً في اليابان، لا يتمثل في تخريج أطفال بارعين أذكياء بقدر ما هو الاهتمام بتخريج أطفال جيدين ومسؤولين ومنظمين. فالبرنامج بأسره يهدف إلى تعليم الأطفال العمل معاً والتعاون على حل المشكلات، وهذا البرنامج يؤتي على وجه العموم بثماره.
وبصفتي أحد المقيمين بمدينة طوكيو على مدى العامين ونصف العام الأخيرين، لم يكن المكان يروق لي ولا يجذبني كمحل لإقامتي ومعيشتي، يرجع هذا إلى ازدحامه الشديد وإثارته للإزعاج والضجر. بيد أنني مقتنع أن الشعب الياباني الآن بشكل عام هو ألطف الشعوب، وأكثرها تحملاً للمسؤولية في العالم. وقد وصفتهم بالألطف تحديداً دون سائر الأوصاف الأخرى من صداقة وسعادة ومرح، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى النظام التعليمي لديهم.

وها هي مزيو هنزاوا، إحدى الممرضات العاملات بمدرسة في مدينة يوكوهاما تطالع غرفة أحد المدرسين العتيقة وتقول «لو كان لدينا هنا حرّاس أو خدم لكانت هذه المدرسة تشع بريقاً، إلا أنه من المهم للغاية أن نزرع في أولادنا المسؤولية، ونعلمهم أن ينظفوا المكان الذي يستعملونه، فهذا هو أحد أهداف التعليم. وأعتقد أننا بهذه الطريقة نعلِّم أبناءنا كيفية الاعتناء بالأشياء».
إن عملية التأهيل الاجتماعي التي بدأت في المدارس شكلت بعمق المجتمع الياباني، وجعلت كل شخص جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.

والحقيقة أن معظم الناس الذين يراقبون النظام التعليمي الياباني يتحمسون له للغاية، إلا اليابانيين، وهذا أمر غريب يحتاج إلى إيضاح. ففي الوقت الذي يبدو فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو نظام تعليمي أكثر تنظيماً، وأكثر عودة للأسس التعليمية، ويتسم بالالتزام بزي مدرسي، بعد أن صادق الرئيس كلينتون على هذا الأمر، نجد أن اليابان تتجه نحو البعد عن هذا النموذج. ويشكو اليابانيون من أن نظامهم التعليمي المدرسي نسقي وصارم بشكل يضر للغاية بعملية الإبداع. وتعج الصحف اليابانية بقصص الاستئساد على الطلبة الضعفاء، والتلاميذ الذين يرفضون الذهاب للمدرسة، بل واستبعد أحد النقاد اليابانيين نتائج الاختبار الممتازة التي يحققها الطلبة اليابانيون، واعتبرها نتاج عمليات تعليم لا حصر لها ينفذها الطلبة على غرار ما تفعل حيوانات الفقمة (عجل البحر) المدربة.

والواقع أنه أصبح واضحاً تماماً أن نظام التعليم في اليابان قد بدأ يتداعى في مدارس الأحداث العالية (مدارس تشتمل على الصفين السابع والثامن من المرحلة الابتدائية، وعلى السنة الأولى من المرحلة الثانوية) مروراً بعد ذلك بسنوات الجامعة. فالمدارس الثانوية تشبه غالباً أواني الطبخ التي تعمل بالضغط، حيث يعتاد الطلبة حفظ أكبر قدر من الحقائق والمعلومات دون أن يتعلموا في الواقع كيفية التفكير. (على الجانب الآخر تقوم أمي بتدريس مادة تاريخ الفن في إحدى الجامعات الأمريكية، وتقول إنها قد التقت بكثير من الطلبة الذين لا يعرفون الحقائق الأساسية ولا حتى كيف يفكرون!).

على أية حال، فإن الانتقادات الموجهة لنظام التعليم في اليابان جانبها الصواب فيما يتعلق بالمدارس الابتدائية. فتلك المدارس لا تستخدم الزي المدرسي أو القواعد الصارمة، بل إنها تغرس الحماس والإبداع اللذين تدمرهما فيما بعد مدارس الأحداث العالية بكل ما في وسعها. إن مأساة النظام التعليمي في اليابان أن يخرّج طلبة من الصف الخامس يتسمون بالابتهاج، والقدرة على التحدث بطلاقة، لكنهم يصبحون في مدارس الأحداث العالية طلبة متشائمين تماماً.

أين الخطأ إذن؟ إن كثيراً من اللوم يلقى على نظام الالتحاق بالكليات، حيث يعتمد مستقبل الشاب بأسره على أدائه في اختبارات القبول.

وتحدد هذه الاختبارات مصير الطالب في نهاية دراسته، فإما أن يصبح مديراً لشركة ما، وإما أن يصبح مشغل مخرطة، ولا توجد أمامه عادة فرصة أخرى. ومن ثم يدفع الآباء والمعلمون على السواء أبناءهم المراهقين إلى مدارس تعتمد على حشو الدماغ بالمعلومات وعلى الحفظ الذي لا نهاية له؛ لكي يبلوا بلاء حسناً في الاختبارات، وذلك دونما التركيز على ما هو مهم أو مفيد. فالمهم - بمنتهى البساطة - هو التركيز على ما يأتي في الاختبارات. ففي مادة اللغة الإنجليزية - على سبيل المثال - نجد أن الاختبارات تركز على القواعد بدلاً من التركيز على فنون الاتصال والمحادثة، وهو الأمر الذي يجعل خريجي المدارس العليا اليابانية بوسعهم حل أي سؤال في اختبار تحريري، في الوقت الذي يصعب عليهم اجتياز اللغة الإنجليزية محادثة رغم دراستهم اللغة الإنجليزية لمدة ست سنوات.

إن إلمامي وتعرفي على نظام التعليم الياباني جاء بشكل شخصي وصحفي أيضاً. فقد أمضى طفلي فترة الروضة بالمدرسة اليابانية، وأتم ابني الأكبر مرحلة التمهيدي، وكان عليّ أنا وزوجتي أن نقرر هل سنبقي عليهم في النظام التعليمي الياباني أم سنلحقهم بمدرسة دولية؟

وقد قال لي ابني «جريجوري» بكل أسى «بابا، أود الالتحاق بمدرسة يابانية فستكون أكثر متعة». وقد قللت من أهمية الأمر وأسقطته من اعتباري قليلاً حيث إن جريجوري يعتقد - على ما يبدو - أن الإنجليزية لغة ميتة أو مهجورة مثل اللغة اللاتينية، لا يتحدثها إلا الآباء والأجداد والعجائز من كبار السن، وقد ارتبطت هذه اللغة في ذهنه غالباً بالأوامر المتعلقة بالذهاب للنوم وإنهاء الطعام الموجود في طبقه. أما اللغة اليابانية كما يراها ويدركها فهي اللغة التي يتحدثها الأطفال.

ولكي أتصور ما يتوجب عليّ فعله قمت بقدر من البحث فزرت المدارس، وتحدثت إلى أولياء الأمور، وفكرت ملياً فيما إذا كانت المدرسة الابتدائية اليابانية ستحول ابني إلى عبقرية فذه أم إلى مجرد إنسان أوتوماتيكي يعمل بطريقة روتينية أو آلية
!