التربية على المواطنة رافد من روافد تحسين نوعية التعليم
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مدى دور التربية على المواطنة في تحين نوعية التعليم ، ولعل الحديث عن هذه القضية لم يأت من فراغ فثمة معطيات تقود لوجود ربط منطقي بين الطرفين ، فالتربية على المواطنة ليست من باب الترف التربوي وإذا ما تم التدقيق في مخرجاتها اتضح مدى ما تحدثه من أثر .
بطبيعة الحال، فإن فحوى التربية على المواطنة هي التي تعزز البحث في حقيقة ما تفرزه هذه التجربة من حقائق تتجاوز نمطية ما غلّف العملية التعليمية من سطحية ، فالمواطنة أو التربية عليها تعكس حالة من تداخلات عميقة بين المعارف والتوجهات والقيم ، وتكسب المتعلم عديد المهارات التي ترتقي بالمنهجية المتبناة ليكون المخرج القفز عن التعليم وصولا إلى التعلم عبر محورة العملية حول المتعلم ، والشواهد على ذلك كثيرة وسأعرض بها .
التربية على المواطنة تشتمل على تمرير واع للمنظومة القيمية بموازاة التركيز على المعرفة وهو ما يجعل نوعية المتعلم تفرض حضورها على طبيعة المخرجات المتوخاة ، فقد وفرت التربية على المواطنة فرصة للمتعلمين كي يصقلوا مهارات البحث والتحليل والاستقصاء ، ولعل طبيعة المشاريع التي يتبناها الطلبة وما يرافق معالجتها بروح بحثية مما يعزز روح المبادرة التي تلاشت كثيرا بفعل أساليب التلقين والتي تجعل الحصول على علامة مرتفعة في أي مبحث هدفا في حد ذاته مما جعل الطالب قاصرا عن تحليل ما يقف وراء لمعلومة وهو ما يقزّم دور الطالب ويحيله إلى متلق سلبي قاصر عن إعمال فكره فيما يتناهى إليه من معلومات ، وبذا فإن التربية على المواطنة وفرّت فرصة مناسبة لتعزيز المنحى الإيجابي للدور المفترض في المتعلم .
التربية على المواطنة تحمل في طياتها تركيزا على منظومة قيمية تربط بين التعلم والدور المفترض أن يلعبه في السياق الذي يتواجد فيه ، ويجعل التجربة المدرسية نافذة يطل الطلبة من خلالها على المجتمع الذي يعيشون فيه ، ويدفعهم لتداول قضايا قد لا يفرد الكتاب المدرسي مساحة كافية لها ، ومن خلال الخبرات التي يمر بها المتعلمون عبر مشاريع المواطنة يمكن القول إن سمة طرح الأسئلة والتعامل النقدي مع الأمور توافر وبامتياز في مشروع المواطنة حيث أن التربية على المواطنة تجاوزت وبنجاح أن يكون الطالب مجرد مجيب عن الأسئلة التي تلقي عليه وهي أسئلة قد تكون في كثير من الأحايين ذات صبغة مكررة مما يجعل التخمين بديلا للحدس ، ومحدودية المعالجة تتغلب على التعمق والتأمل ، ففي مشاريع المواطنة مئات الأسئلة المصوغة بطريقة هادفة إلى استجلاء كنه الأشياء ، ومن هنا ، كان للتربية على المواطنة دورها الواضح في إكساب الطلبة ميزة البحث فيما وراء الظاهرة ومحاولة سبر أعماقها لتعرّف ما تجب معرفته .
في سياق متصل ، يأتي رافد البحث والهادف إلى تتبع مرامي الظاهرة ، مما يجعل عدم الاكتفاء بالحصول على المعلومة هو هاجس المارين في التجربة المرتبطة بالتربية على المواطنة ، وهذا مما يرتبط وبوضوح بالسؤال الملح دوما : ما طبيعة الطالب الذي نريد ؟ أنريده طالبا يقنع بأن تكون المعلومة المقولبة والجاهزة هدفه أم نريده باحثا في الأسباب والمسببات ؟
سؤال يفرض ذاته وبقوّة والإجابة عنه لا تتأتى إلا بنسف الكثير من المسلمات وتجاوز الكثير من الأساليب التي جعلت طالبنا متقوقعا على ذاته ، قانعا بما يتحصّل لديه من معارف مع أن التسارع التكنولوجي والمعرفي جعل الحصول على المعلومة أمرا متاحا وبيسر دون عناء الجلوس لساعات طويلة في دهاليز الغرفة الصفية دون أدنى تفعيل للتفكير المنطقي .
بصراحة ، تبدو التربية على المواطنة تمردّا على أعراف وممارسات تربوية كان لتراكماتها أكبر الأثر في انحدار مستوى الخريجين من المؤسسة التربوية حتى الجامعية منها ، فكثيرا ما يطالعنا مدرسّو الجامعات بالانطباع بأن مستوى الطلبة في تراجع ، وأن الأجيال التي تخرجت منذ زمن كانت تحوز على فاعلية أكبر وشخصية أنضج مع أن طبيعة المقررات بقيت في المجمل هي ذاتها ، فلماذا ؟
دون تكبد عناء كبير في البحث عن الإجابة يمكن القول وببساطة أن الزمن غير الزمن ، وبالتالي بات لزاما خلخلة قناعات وتطوير رؤى وتبني منهجيات تجسر البون الشاسع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون ، وقد جاءت التربية على المواطنة ملبية وإلى حد كبير لهذا المطلب والذي فرضته معطيات موضوعية بعد أن فرضت التعقيدات الحياتية نفسها على كل ما يرتبط بالحضور الفاعل للفرد ، وبالتدقيق في المشاريع التي تعامل معها الطلبة في مشاريع المواطنة يتبين أنها عالجت قضايا ذات تفرعات سلوكية وصحية واجتماعية وفكرية وسياسية وثقافية ، وطرحت تساؤلات في الصميم لامست هموم حياتية لا حد فاصل بين كونها خاصة بالمجتمع العام أو المجتمع المدرسي ، وبالتالي ، فإن التربية على المواطنة تجاوزت ما ترسخ لعقود طويلة من أن هناك حد فاصل بين المدرسة والمجتمع الخارجي مما جعل آليات التعامل قاصرة عن الإحاطة الشمولية بمسببات الخلل.
في التربية على المواطنة تحديد للأولويات ، وتقاسم للأدوار ، وتجارب عملية تتجاوز ما ترتب على التركيز المبالغ فيه على القوالب النظرية الجامدة ، وهو ما غيّب الروح الجماعية من جهة ، وحرم المتعلم من فرصة التجريب والتعلم بالعمل ، فجاءت التربية على المواطنة لتقدّم حلولا ناجعة لهذه المعضلة التي تسببت في تراكمات انحدرت بمستوى المعلم والمتعلم على حد سواء .
في التربية على المواطنة تجاوز للبحث عن المواطن العادي الاعتيادي أملا في الوصول إلى المواطن الصالح المشبع بالقيم ، والقادر على أخذ دور فاعل من مجمل القضايا المحيطة ، كما أن تقاسم الأدوار وتحمّل المسؤوليات يعيد الاعتبار للمشاركات الفردية مهما كان وزنها ، ويجعل من التعلم متعة حتى وإن كانت هناك صعوبات .
قد يتساءل البعض عن مدى صحة ما ذهبنا إليه ، ولهم الحق في ذلك ، ولكن وبموضوعية مطلقة فإن المشاريع التي نفذها الطلبة في إطار التربية على المواطنة وخاصة في المشاريع النوعية التي ينفذها مركز ابداع المعلم مع وزارة التربية والتعليم تقدّم البرهان القاطع على أن هناك فرقا واضحا في آليات المعالجة والتعاطي ، وأن المخرجات التي تم الخروج بها عكست حالة لا متناهية من الإبداع المعبّر عن وجود قدرات كامنة يمكن بقليل من الرعاية والاهتمام استخراجها واستدراجها .
في ظل الحديث عن نوعية التعليم لا يمكن القفز عما أفرزته تجربة التربية على المواطنة وما قدمتّه من روافد يمكن لها أن ترفد الجهود المتصلة بالاهتمام بنوعية التعليم ، فالتربية على المواطنة غدت حالة معاشة وليست مجرّد مشاريع ذات نطاق زمني محدود ، وهو ما يفرض علينا تعليق آمال إضافية عليها علّها تكون سببا في التغيير التدريجي في السياق التربوي الذي يتطلب أولا وقبل كل شيء الانحياز للتعلم بالعمل ، وتقاسم الأدوار ، والبحث وغيرها من المقومّات التي تبني الشخصية القادرة على تبنّي رؤية حيال الموضوعات المطروقة .
في ضوء ما سبق ، يجدر بنا إيلاء هذا النوع من التربية-وأعني به التربية على المواطنة-مزيدا من الاهتمام بعد أن بات لدينا رصيد لا يستهان به من التجارب التي إذا ما أحسن تحليلها فإنها تقدم مؤشرات دالة على مدى ما أحدثته التجربة من تغيير ، ليكون الحكم حينها مقرونا بحقائق .
وفي المحصلة ؛فإن الارتقاء بنوعية التعليم لا يتأتّى بقرار وواهم من ظنّ أنه قابل للتحقق الفجائي المتسارع إذ أن طبيعته تتطلب أن تكون هناك جهود تراكمية ، ومنهجيات عمل طويلة المدى تفضي في النهاية إلى تغيير في الجوهر لا في القشور ، وهو ما يعيدنا إلى ما ذهبنا إليه في مستهل حديثنا من محورة التعلم حول المتعلم وهو ما لن يتحقق دون استثارة الخبرات السابقة ، وتغيير منهجيات تقرن التعلم فقط بمدى التحصيل.
منقول
مواقع النشر (المفضلة)