واقع المثقف العربي الآني
بقلم / عبد الحافظ بخيت متولى
قال أبو حيان التوحيدي : لقد اضطررت إلى بيع الدين والمروءة وإلى تعاطى الرياء بالسمعة والنفاق , وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم" ولما أعيته الحيلة أحرق في آخر أيامه كتبه , وهذا أبو سلمان المنطقي الذي كتب عنه أبو حيان أيضا يقول :" إن حاجته ماسة إلى رغيف" وهذا أبو على القالي ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس حتى اضطر إلى بيع كتبه وهى أعز شئ عنده
هذا التاريخ الذي ذكرنا آنفا يلح علينا بطرح مجموعة من الأسئلة
*هل الواقع الاقتصادي والمعاش للمثقف العربي اليوم يختلف عن الأمس؟
* وهل أزمة المثقف الاقتصادية هي أزمة اقتصادية أم أنها أزمة مجتمع؟
* هل أزمة المثقف العربي اليوم هي أزمة أحادية الجانب أم أنها امتداد يشمل كل جوانب حياته؟
وقبل تقديم أية إجابات لهذه الأسئلة المطروحة علينا أن نعرف من هو المثقف
المثقف كم هو متعارف عليه في الأوساط الفكرية هو الشخص العامل بالكلمة في شتى إشكالها المنطوقة أو المكتوبة أو المصورة أو المغناة والمؤثر بها على وعى الناس ومن هنا فان المثقف يملك قدرا من المعرفة يؤهله لقدر من النظرية الشمولية وقدر من الالتزام الفكري والسياسي , فالمثقف العربي لديه قدر من المعرفة والإطلاع في ثقافة أمته وتراثها ولديه قدر ولديه موقف معين من قضايا أمته
ولما كانت الدول العربية تحمل في واقعها صورة الدولة العصرية والديمقراطية باتت مهمة المثقف ليست الوقوف على باب السلطة أو على هامشها وإنما تتولد القناعة عند المثقف الثوري في التطلع والعمل لبناء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي عقلاني فالمثقف الملتزم بعكس المثقف السلطوي أو الحكومي لان مهمته هي تفسير التاريخ وإعطاء الحياة معنى ومغزى حقيقي وهادف وتكريس القيم التي يجب تكريسها بهذا تصبح وظيفة المثقف هي التغيير والتحويل بينما المثقف السلطوي وظيفته الاستقرار والاستمرار لنظم الحكم والعمل على لي أعناق الفكر لصالح هذه النظم ومن هنا فان المثقف الملتزم وغير السلطوي محط هجوم عنيف وعليه أن يعي ذلك جيدا فى مرحلة الاختيار والاختبار الحقيقي لممارساته الثقافية الواقعية مادام يعتمد رؤية مستقبلية ومنهجية صدامية تغيريه
والمثقف الصدامى التقدمي ينبغي عليه ألا يتصور الاستقرار وإنما حظه الجوع والعرى والتشرد والطرد والحرمان بل والموت أحيانا وعبر قنوات الموت العديدة وعبر هذه المعاناة يتشكل الوعي لديه بل الرؤية الصادقة للواقع والمستقبل فرسالة الفكر هي تحليل الواقع وتطويره فلا يمكن أن نفصل رسالة الفكر عن الواقع والمفكر لان الفصل سيوقعنا في تيار المثالية ورسالة الفكر هي رسالة المفكر التي تعنى بتحليل الواقع وتغييره نحو الأفضل
والمثقف مطالب بالإطلاع على الثقافة قديمها وحديثها لان تناول جزء من ثقافة التاريخ لا يعنى أن الإنسان أصبح مثقفا فهو قد يواجه قضايا تراثية وقد يواجه قضايا عصرية وقد يواجه قضايا ثنائية التركيب لهذا فعجزه عن فهم الجذور التاريخية للقضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية ومداخلاتها العصرية قد يجعله عاجزا عن وضع الحلول الناجعة لهذه القاضية ويعجزه أيضا عن استشراف المستقبل بشكل سليم ولذلك فالمثقف العربي إمام قضية هامة وشاقة تتمثل في فهم الماضي والحاضر لبناء مستقبل مشرق وبهذا يكون المثقف العربي المعاصر أما مجموعة من المهام ربما كان أهمها
الالتصاق الدائم بالجماهير وتبنى مواقفها والدفاع عنها حتى ولو اجبر على العزلة تحت ضغط مواقف اكبر منه كالهجمات السلطوية التي يعجز عن مقوماتها والتصدي لها
/التصدي للنزعات المثالية بكل إشكالها باعتباره تمثل عائقا حقيقيا أمام الرؤية العلمية وأما تحرير الجماهير والسير بها نحو المستقبل
التصدي للعادات والتقاليد السلفية والأفكار الخرافية
الدفاع عن حرية الجماهير التي هي حريته عبر رؤية موضوعية ونهضوية للواقع والمستقبل
والمثقف العربي حسب رأى سلامة موسى عليه أن يترفع عن مشاكله الشخصية وان يعمل في خدمة الجماهير في إطار الإنسانية والحرية والتطور والعلم
لكن أين المثقف العربي الآن من هذه المهمة؟
هل تناسى فتاة عابرة في حياته أم ظل يبكيها طيلة حياته وتناسى بذلك قضية الإنسان والإنسانية؟ الم يخدع نفسه ويخدع الآخرين عندما صور قضية هذه الفتاة بأنها قضية المرأة والمجتمع؟ وأظن أن من يقرا دواوين معظم الشعراء العرب وقصصهم ورواياتهم بل وصفحات الإهداء وما سطر بها لامرأة عابرة سوف يصيبه العجب وهل يعقل انه لا هم لهؤلاء إلا الحب وسيما الحب الضائع؟
لقد كان سلامة موسى بارعا في طرحه لمشكلات المثقف العربي حين راح يطرح التساؤلات الآتية
*هل مهمة المثقف أن يسير مع الناس في الشارع أم أن يرفع من مستوى الناس ؟
*هل يلتزم الصدق في القول والفعل أم يعيش الانفصال بين السلوك والفكر؟
*هل يكتب من بهو الأمراء والسلاطين أم يعيش مع الناس ويكتب عنهم؟
وقد أجاب سلامة موسى أيضا عن هذه التساؤلات بشكل منطقي وعلمي حين قال:
-المثقف يربط القول بالفعل
-دفاع المثقف عن الجماهير هو دفاع عن ذاته
-مهمة المثقف ورسالته هي التغيير
- المثقف يعرف حياته
ويضع أيضا سلامة موسى شروطا للمثقف منها
*أن يعرف تاريخ العالم منذ بدء الحضارة وحتى يومنا
*أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة التي يسير عصرنا على مبادئها
* أن يعرف من العلوم ما يكفيه لفهم الظواهر المختلفة
* أن يعرف لغته التي نشا عليها ويتقن لغة الآخرين
وهنا نطرح سؤلا قد يكون أكثر مشروعية وهو
أين المثقف العربي الآن من هذه الشروط؟ , إن المثقف الملتزم عليه أن يقدم الكثير دون تفكير بالمال أو المنصب مادام يحمل رسالة ويخدم هذه الرسالة ومن هنا تبرز صورة سقراط في الفكر اليوناني القديم وصورة الرصافى في الفكر العربي الحديث
ثمة تساؤلات يضل المثقف المفكر يتعرض لها من نفسه ومن الآخرين وهى
إذا كان المثقف ثوريا فلماذا لا ينزل إلى ارض المعركة ؟
وهل الالتزام بالقلم أفضل أم الالتزام بالمعركة؟
لهذا نجد بعض المثقفين قد تركوا القلم وتوجهوا إلى المعركة مثل " جيفارا" لكن السؤال الذي يطرح نفسه لمن سيكون النصر للقلم أم للسيف؟
وإذا أردنا اختصار النقاش والعودة إلى تجارب الشعوب فإننا نقول مع نابليون عندما هزمه الألمان بتأثير "نيتشه" قوله : "لقد هزم القلم السيف"
وخنا نتساءل : أين المثقفون العرب من " جيفارا" أو " نيتشة" ؟ وهل المثقفون العرب يشكلون فعلا طبقة يمكن أن نطلق عليها طبقة المثقفين؟
والمتأمل في الواقع العربي يجد أن المثقفين العرب لا يشكلون طبقة وأظن أن الواقع العربي يفرز المثقفين العرب في شرائح حيث نجد:
المثقف الملتزم أو الجماهيري وهو المثقف الملتزم بقضايا الشعب
المثقف السلطوي وهو الملتزم بالسلطة قولا وفعلا ولا يسمع صوته إلا من خلال دعوة السلطة له وطلب الحديث منه
المثقف التغريبي بشقيه فهناك مثقف تغريبي سلفي وهو يمثل المثقف الذي أنهكه الماضي والحديث عنه والغوص فيه ولا يجد وسيلة لمشكلات الحاضر إلا بالعودة إلى الماضي , وهناك مثقف تغريبي عصري ويمثل المثقف الذي تقمص شخصية وفكر الآخرين دون النظر إلى الذات
من هنا فإننا نجد أنفسنا إمام طبقات متباينة للمثقفين العرب وهذا التباين يكشف عن :
*مثقفي النخبة أو الصفوة وهم أصحاب الجاه والثروة
*مثقفي الشعب وهم الفقراء وحال يشبه إلى حد كبير طبقتهم التي يدافعون عنها
ولذلك فهذه الشرائح المثقفة في حال تباين وتناقض فكرى واقتصادي واجتماعي ولما كانت البيئة العربية بيئة سلطوية وقمعية تحولت الدولة والسلطة إلى خصم للمثقف وللجماهير التي يدافع عنها وهنا تبرز لدين صور المثقف الذي يعتبر موظفا وعميلا للسلطة يتبنى مواقفها ويدافع عنها والسلطات العربية تريد من المثقف أن يكون بوقا لها أو يبحث عن قضايا لا تتعلق بها بل تريد إلا يسمع إلا صوتها ولا تطرح ايديولوجية إلا ايديولوجيتها لذا فهي تحتكر القرار السياسي والفكري ولا تريد منه أن يبنى قضايا الجماهير ولا أن يدافع عنها ففي هذا انتقاص من قدرها سيما إذا علمنا أن معظم الدساتير العربية والأحزاب العربية الحاكمة أو البعيدة عن السلطة تعو بتاريخ تأسيسها إلى مرحلة الاستعمار والنضال الوطني ضد أعوانه وقد صاغت برامجها وفق هذه المرحلة
وهذه النظم السياسية القمعية التي تعرض لها المثقفون العرب وما زالوا يتعرضون لها حتى الآن دفعتهم إلى الهجرة حيث هاجر المثقفون السوريون إلى مصر وهاجر المثقفون المصريون في القرن التاسع عشر إلى القسطنطينيه ووصل بعضهم إلى فرنسا وما زالت قوافل الهجرة مستمرة
ونظرة إلى الواقع الثقافي العصري تكشف عن تباين اشد للمثقفين على مستوى القطر الواحد ففي مصر مثلا يقدم لنا محمد احمد إسماعيل في كتابه " المعطيات الثقافية "توزيعا للمثقفين المصريين هو كالاتى:
*اتجاه سلفي يرفض أي جديد ويمثله مصطفى صادق الرافعى
*اتجاه تغريبي يأخذ عن الغرب فكرا وسلوكا وممارسه ويمثله سلامة موسى
*اتجاه توفيقي يحاول خلق تفاعل بين ثقافة الغرب وثقافة العرب ويمثله طه حسين
وهنا أرى أن الباحث اغفل تيارا آخر اخذ في الظهور والانتشار وهو تيار مسلح بالرؤية العلمية لتحليل الواقع العربي ويمثله سمير أمين ومحمود أمين العالم
ومن هنا وعبر إشكاليات الواقع وسياق هذا المقال نلاحظ أن المثقف العربي بين نارين: بين ضغط الجماهير وضغط السلطة فالجماهير تريد من المثقف أن يلتزم بقضاياها ومشكلاتها والا فهو مقصر ولا يؤدى مهمته والسلطة تريده يعمل لصالحها ويبرر إعمالها ويرفع من قيمتها حتى تحافظ على نفسها وتبرر شرعيتها لهذا يلجا المثقف في كتاباته إلى الرمزية فربما يكتب عن شخصيات من الماضي أحبها ووجد فيها خير معبر عن شخصيته وعن مشاكل عصره ويرفع من قيمتها حتى يضمن الاستمرارية والهروب من قبضة السلطة
ومع ذلك لنا أن نقول : إذا كان الواقع العربي مأزوم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا فماذا فعل المثقف العربي تجاه هذه ألازمات؟ هل كشفها ؟ وبذلك يكون قد وصل إلى نصف الحقيقة وفى هذا الجانب أظن أن المثقف العربي مازال مقصرا ويتضح هذا من خلال انعدام الدراسات والبحوث الميدانية للواقع العربي من قبل المثقف الملتزم إلا القليل منها الذي جاء على استحياء وجاء قاصرا كما فعل جورج طرابيشى ومحمد عابد الجابرى وقسطنطين رزيق ولكن سوف تستمر مشاكل وإشكاليات المثقف العربي ويستمر فقره المادي ويعيش فقيرا ويموت فقيرا ومن خلال فقره يكون قد اتحد مع طبقته الكادحة وعندما يكتب عن نفسه ومشاكله الاقتصادية فإنما يعكس واقع طبقته ولقمة العيش هذه تضعه بين المطرقة والسندان فهو يريد لقمة العيش ويريد أن يقدم ثقافة الجماهير لهذا قد نقرا فكرا تقدميا في جريدة غير تقدمية هذا أيضا من باب الخلط السلفوية والتغريبية وهذا الخلط يضع المثقف بين تيار ديني يعتمد على الجبري والغيبي والسلطوي وبيت تيار غربي يقدم لفروض الانحطاط ومعاداة الدين والجماهير
لهذا ولما كان المثقف ابن بيئته فان البيئة العربية المشوهة اجتماعيا وفكريا واقتصاديا وسياسيا لا تسمح بوجود المثقف العلمي والموضوعي والثوري وان وجد فإنما يمثل حالة استثنائية ولهذا فإننا نرى مع عبد الله العروى في كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ " أن أزمة المثقف العربي في اتجاهين:
*اتجاه البؤس أي عدم الرضا عن الأوضاع الاجتماعية وعما يفرزه من أدب تعبيرا عن ذاته
*الجهل بالمحيط الطبيعي والتاريخي وهو بذلك لا بربط بين القول والفعل
ولذلك فان أزمة المثقف العربي هي أزمة واقع في المقام الأول وأزمة تخلف في التنشئة الثقافية والفكرية في المقام الثاني هذه التنشئة التي كانت بعيدة عن جو الديمقراطية وغياب روح النقد والحرية هذا مما جعل صورة المثقف العربة مشوهة عبر التاريخ والواقع
مواقع النشر (المفضلة)