فنلندا.. تجربة تعليم تستحق التأمل
قد بكون من الظلم المقارنة بين أحوال التعليم في مصر ونظيرها في فنلندا, ولكن من العدل والانصاف أن نعرض لتجربة هذه الدولة, المتميزة والناجحة بكل المقاييس, وأن نغوص ونفهم أسباب نجاحها لنعرف قيمة عنصر التعليم في تغيير مسار وحياة دولة أصبحت تتربع, بلا منافس, علي عرش وقمة التصنيف العالمي في جودته.
وإختيار فنلندا لعرض تجربتها لم يأت من فراغ, فهو ليس اختيارا عشوائيا, إنما بني علي عاملين رئيسيين, أولهما أنها كانت تعيش ظروفا مشابهة لما كانت عليه الأحوال في مصر في منتصف القرن الماضي, ولكنها عرفت كيف تتحول خلال سنوات تعتبر قليلة في عمر الشعوب, من مجتمع زراعي بالدرجة الاولي الي دولة صناعية كبري تحتل اليوم مكانة مرموقة في مجال صناعة الالكترونيات في العالم, أما العامل الثاني فهو أنني قد واتتني الفرصة للاطلاع علي نتائج هذه التجربة الرائدة في اطار دعوة تلقيتها لزيارة عدد من المدارس والجامعات الفنلندية والالتقاء بالعديد من المتخصصين والمسئولين الذين يحصدون اليوم نتائج جهود مبهرة تمت, ويساهمون حاليا في الاحتفاظ بالمكانة التي تحققت.
منذ الخطوة الاولي في مسيرة هذه النهضة الشاملة أدركت فنلندا أهمية التعليم وعرفت أنه قلب وأساس عملية التنمية, وآمن الفنلنديون بأن التعليم سوف يرفع من درجات المعرفة التي سوف تنعكس في زيادة انتاجية العمل, وأن تدفق هذه المعرفة سوف يؤدي بدوره الي زيادة رأس المال الثقافي والعلمي للجميع لذا تبنت الدولة عملية تطوير منظمة وناجحة لمختلف مراحل التعليم من الطفولة المبكرة الي أعلي الدرجات الجامعية, وأثمر هذا التغيير عن نمو طبقة متوسطة قوية وفاعلة نمت وفي عقلها انطباع مؤكد بأن التعليم هو المدخل الوحيد للتحرك نحو الاعلي داخل المجتمع وهو الذي سيؤدي في النهاية الي تحقيق المساواة الاجتماعية, كل هذا من خلال استراتيجية محددة الاهداف وخطة تتجدد حاليا كل أربع سنوات بغرض تقييم ما فات وتغيير الاولويات وفقا للمتغيرات العالمية المستمرة.
اعتمدت فنلندا في انطلاقاتها علي نشر شبكة من المدارس والجامعات في جميع أنحاء الدولة تقدم تعليما اجباريا في السنوات التسع الاولي, ومنحت المدارس الحرية الكاملة في اختيار نوعيات الكتب المدرسية المستخدمة طالما تلتزم بالاطار العام الذي حددته الوزارة, وبالتالي وفرت فرص متساوية وعادلة لجميع الاطفال في الحصول علي تعليم مجاني شديد التميز, لذلك كان اهتمام السلطات المحلية شديدا بنوعية الكتب ومحتواها عن طريق الاستعانة بأكبر الكتاب وأفضل الطرق التوضيحية شرحا.
حقيقة أن هناك عوامل ساعدت فنلندا علي سرعة الانجاز مثل انخفاض عدد السكان( لا يتجاوز العدد حاليا5,200 مليون نسمة) وقلة عدد الاطفال في المدارس إذ لا يتجاوز اعداد التلاميذ في مرحلة التعليم الاساسي حاليا ستين ألف طفل ويتراوح عدد التلاميذ في المدارس بين عشرة و900 تلميذ علي أكثر تقدير, ولكن اهتمام الدولة كان منصبا علي عامل الجودة واستخدام الانشطة المفجرة لابداعات التلاميذ, مما جعل من التعليم عملية ممتعة غير شاقة. فقد وجد الباحثون أن التلاميذ الفنلنديين يقضون في المدارس وقتا أقل من نظرائهم في دول أوروبية أخري, كما يتساوي مجمل الانفاق العام علي التعليم مع هذه الدول, ومع ذلك استطاع الطلاب في سن الخمسة عشر عاما ان يحققوا مراكز متقدمة للغاية في الاختبارات الدولية الخاصة بتقييم الاداء الطلابيpisa حيث أظهروا تفوقا واضحا وحصلوا علي درجات غير مسبوقة في الرياضيات والعلوم ومهارات القراءة واستخدام المعلومات, رغم أن هذه الاختبارات ليست تفريغا لمعلومات تم استذكارها,
ولكنها تقيس مدي استيعاب وفهم محتويات المناهج وكيفية استخدام المعلومات الاساسية والمهارات الضرورية للعمل, وتوظيفها لحل المشكلات في المجتمع امستقبلي.
هناك عامل آخر شديد الاهمية عند تقييم هذه التجربة, وهو التعاون الكبير بين الجامعات وكليات العلوم التطبيقية. والمؤسسات البحثية والشركات والمصانع وارتفاع نسبة الانفاق علي الأبحاث العلمية. ورغم أن المقارنات الدولية في أواخر سبعينيات القرن الماضي كانت تشير إلي تخلف فنلندا عن منافسيها في استثمارات الأبحاث والتنمية, إلا أنها سرعان ما أدركت أهمية هذا القطاع الحيوي, فرفعت معدلات الانفاق لتتساوي مع كبريات الدول الصناعية مما كان له أكبر الأثر في تحولها إلي واحدة من أكثر الاقتصاديات الحديثة تقدما من حيث جودة الأداء متفوقة بذلك علي الولايات المتحدة الأمريكية.
كيف لها بهذه المكانة المتقدمة في عالم اليوم؟
كان العامل الأول وجود شبكة من الجامعات وكليات العلوم التطبيقية ذات تقنيات دراسية شديدة التقدم, ويعتبر ممارسة الطلاب للعمل داخل المصانع والمؤسسات الصناعية المختلفة جزءا لايتجزأ من عدد الساعات المعتمدة في دراستهم. أما العامل الثاني فهو تشجيع الابداع والابتكار الذي يستند إلي توقعات استراتيجية لعبت فيها جميع قطاعات الدولة دورا كبيرا في تطوير الامكانات التنافسية لها, حتي إن شركة رائدة في مجال الإلكترونيات كانت مسئولة وحدها عن تمويل25% من استثمارات الدولة في الأبحاث والتنمية, كما قامت فنلندا بتطوير منظومة قومية لتصدير الالكترونيات تستأثر حاليا بثلث إجمالي الصادرات. كل هذا التطور كان مرجعه الارتفاع الكبير في مستوي التعليم والانفاق علي الأبحاث العلمية والذي وصل إلي3,4% من الناتج المحلي الاجمالي جاء70% منها من القطاع الخاص, وهو معدل مرتفع للغاية إذا ما قورنت دوليا.
أدرك الفنلنديون أن الاستثمار في التعليم والأبحاث اصبح جزءا لايتجزأ من رفاهية الدولة وتطوير الثروة البشرية فيها, بل هو الأساس الذي استطاعوا به الضرب بقوة في مجالات التطور الاقتصادي والاجتماعي, حتي احتلوا المرتبة الأعلي في متوسط الدخول بين الدول الأوروبية.
وهنا كان تساؤلي: هل يبقي أمام هذا النجاح تحد؟!
كانت الاجابة: نعم.. فالتغيرات في العالم متلاحقة بعد أن فرضت العولمة نظمها, والتطور السريع في تنمية التكنولوجيا سوف يوجد الحاجة لتطوير القدرة علي تنظيم وتحليل المعلومات, وتعلم أشياء جديدة طوال الوقت, وتطبيق منهجيات جديدة في نظم إدارة الأزمات, وتوظيف أصحاب التفكير الخلاق, وتوفير المعرفة اللازمة للتطور الفعال للمعلومات.. لذلك كان التعليم ـ وسيظل ـ هو الشغل الشاغل أمام هذه الدولة التي ما كان يمكن أن تتفجر طاقاتها وتحقق هذا الانجاز العلمي والثقافي والاقتصادي وأن تتربع مع الكبار في العالم علي قمة التطور التكنولوجي دون كلمة السر التي لاتزال ـ مع الأسف الشديد ـ غائبة عن اهتماماتنا وهي التعليم.
مواقع النشر (المفضلة)