تكريس الديمقراطية ، وقراءة الآخر ركيزة بناء الأمة
لقد حان وقت اليقظة العربية الحقيقية من أجل تكريس الديمقراطية ، وتدشين الحوار الثقافى العملى فى ربوع الأمة العربية ، فاليوم ليس بالبارحة ، اليوم الأمة العربية فى حالة صحوة فكرية ، وعلمية ، وسياسية ، واجتماعية ، العالم العربى يتغير صوب الديمقراطية . زاوية الرؤى لديه تتجه ناصية الحرية ، والمسئولية ، والإبداع ،و التقد م ،والتنمية . ولسنا بحاجة إلى التعريف بالديمقراطية بقدر حاجاتنا الماسة إلى تفعيل حقيقى لها . وذلك من خلال الترجمات لأعمال الغير، والانفتاح على الثقافات الأخرى ،وقراءة الآخر ، مثلما فعل الغرب من خلال علم الاستشراق حيث نجد "ايتينمارككاترمير" ( 1782 – 1857) المستشرق الفرنسى الذى ترجم إلى الفرنسية "مقدمة ابن خلدون" فى ثلاثة مجلدات عام 1858، كما قام بترجمة خطط المقريزى ، واهتم بدراسة اللغة الهيروغلفية ، والأدب ، ومقارنة الأديان فى المجتمع الشرقى القبطى ، والإسلامى . وكذلك المستشرق الفرنسى "لويماسينيون" 1883-1962 الذى استخدم المنهج الاستبطانى بتميز شديد ليمزج بين الديانتين المسيحية ، والإسلامية ، ويرى أنه لا تعارض بين الديانين فكلاهما يدعو إلى الحب، والمساواة ، والتسامح أيضاً ، ورأى أنه كى تتم دعائم الديمقراطية الحقة لابد من نشوء حوار مسيحى إسلامى . والأمر لا يقتصر فحسب على المستشرقين ، وإنما قام بقراءة الغرب أيضاً المستغربين من خلال علم الإستغراب ، فقد كانت البعثات الأوربية التى أرسلها "محمد على" إلى إيطاليا، وفرنسا باكورة الاهتمام بدراسة علوم الغرب، ونقلها إلى الشرق ، وذلك عندما ساهم "رفاعة الطهطاوى" فى الارتقاء بالنهضة العلمية بعدما نال مؤلفه ( تخليص الإبريز فى تلخيص باريز ) شهرة واسعة ، وإضافة إلى حقل المعرفة العلمية ، ومن ثم تأسيس مدرسة الألسن عام 1835، والتى كانت تسمى بمدرسة الترجمة ، ومن هنا فقد تأسس من خلال الترجمة حواراً مع الآخر من نوع آخر ، وهو حوار العلم ،والمعرفة، والانفتاح الثقافى ،والتعرف على الثقافات الأخرى ، وإبداعاتها من خلال ترجمة أعمالهم إلى عدة لغات عربية ، وفرنسية ، وإنجليزية، وألمانية ... كما عزف على أوتار الديمقراطية عميد الأدب العربى الدكتور "طه حسين" 1889 ، عندما رأى مستقبل الثقافة فى بناء الحضارات بالعلم ، والمعرفة ، والحوار الثقافى بين الحضارات ، والإبداع الحضارى لا يأتى إلا من خلال تمازج الهويات، وتزاوج الحضارات فيما بينها ، الشرق ،والغرب. تأسيساً على ما سبق يدعو "ديفيد خان" ، و"بيتان ليرز " فى دراستهما2011 عن (تدريس، وتعليم الديمقراطية ، والتنمية التشاركية من خلال دورات فى المواطنة ) . إلى أهمية تعليم الديمقراطية وفقاً للممارسات العملية ، وتأسيسشبكات تواصل اجتماعية بين الأفراد، والمجمتعات عبر تكنولوجيا الاتصالات ، والمعلومات من خلال تأصيل مشروعات مشتركة ، وهادفة إلى تحقيق التقارب ، وخلق لغة تفاهم إنسانى مشتركة من خلال العمل ، والتواصل المستمر من أجل تحقيق الاستقرار، والسلام الاجتماعى بين الشعوب . لهذا فالمدخل الذى استخدموه هو التعليم عبر التنوع الشديد . وهذا يفضى إلى القول بأن التعلم الحقيقى، والإبداع لا يأتى إلا من خلال الترحيب بثقافة الاختلاف كأحد تداعيات عملية الديمقراطية . ومن ثم فالتنشئة السياسية ، والحديث عن المواطنة لا يمكننا بحال من الأحوال تفعيلها بلا تعليم قائم على التعددية الثقافية ، والتنوع فى الهويات ، فلسنا وحدنا كى ننشئ ديمقراطية أو مواطنة محلية خاصة بنا ، وإنما هويتنا الخاصة ، وذواتنا تستوعب بدورها بفضل التشبيك ، والاحتواء ، والحوار المتبادل مع الآخر جملة الهويات الأخرى لتخلق ما يسمى بالمواطنة العالمية ، القائمة على الحوار الديمقراطى ،والتواصل الثقافى، والعقلانية التواصلية التى دشنتها النظرية النقدية بريادة هابرماس ، وسلاسة المنطق، والحوار النقدى الموضوعى فى عقلانية "زكى نجيب محمود" ، التى أسست لضرورة فهم بل استيعاب الآخر من أجل العيش فى عالم إنسانى مشترك فى المكون الإنسانى ، ويرحب بثقافة التنوع فى إطار الوحدة الإنسانية . ومن ثم فلا ديمقراطية بلا فعل حقيقى ، وإرادة قوية تسمح بالتنوع ، والاختلاف ، والرغبة فى المعرفة ، والتعلم ، والحوار المتكافئ المتزن الذى يستند إلى شواهد ، ودلالات منطقية ، يمكن الإرتكان إليها دوماً . هكذا فعل أرسطو ، وأفلاطون ، وكانط ، ورسل ، وكاسيرر ، وهوسرل للإرتقاء بالوعى الإنسانى ، وتدشين قيمة العمل العقلى ، ودوره فى تحقيق التنمية المستدامة ،والسلام، والأمن المجتمعى . وقد اجتهد زويل ، ومشرفة ، وفودة ، ونبوية موسى ، ورفيقة حمود ، ومجدى يعقوب ، ومصطفى السيد ، وغيرهم كثيرين فى إبراز قيمة الإنسان العربى من خلال تكريس الديمقراطية ، واحترام الآخر ، والتعامل معه، وخدمته فى كافة المجالات فى جميع أنحاء العالم ، ومن ثم زاوجوا بين المواطنة المحلية ، وبين المواطنة العالمية ، فاستحقوا لقب علماء ، واستحقوا ما أحرزوه من جوائز دولية . هذا ما نريد أن ندشنه من معالم للديموقراطية الفعلية ، والحوار القائمة على دراسة الآخر ، وفهم الآخر ، والترحيب بالتعددية الثقافية ، والتنوع الإنسانى ، وإحداث التنمية فى كافة الميادين الإنسانية ، والمجتمعية . ومن ثم فإن عمليات بناء السلام ، وإحداث الاستقرار ، والأمن بين الشعوب ، نحسب أنه لا يتأتى إلا بالفعل ، والعمل، والإبداع الدائم، والمتواصل ، واحترام التعددية الثقافية ، والعمل فى عالم متعدد الهويات ، والثقافات .
د/فاطمة الزهراء سالم محمود
كلية التربية –جامعة عين شمس
مواقع النشر (المفضلة)