صناعة الإبداع:
هل ثمة طريق تتوصل به المجتمعات الإنسانية إلى إيجاد مناخ فكري تُغرس فيه شجرة الإبداع وتُصنع فيه منتجاته؟
بكل جزم: نعم... ذلك أن الإبداع ظاهرة إنسانية اندمجت أسباب عقدية وثقافية ونفسية فكونت إطاراً ـ يستعصي على التجزئة ـ أسهم في إنتاج تلك الظاهرة وفي تشكيلها، ومن ثم ندرك أن الإبداع نتيجة يمكن الظفر بها متى توافرت وتضافرت أسبابها. وبنظرة خاطفة إلى المجتمعات الإنسانية نتلمس سر نجاح بعضها في صناعة الإبداع في عقول أفرادها على نحو مكنها من النهوض الحضاري.
لقد استطاع اليابانيون مثلاً أن يحدثوا انقلاباً إبداعياً تمكنت به شركة يابانية أن تلتزم باختراع جهاز كل أسبوع، حتى ولو لم يتم تسويق منتجاتها في بعض الأسابيع بالصورة المطلوبة!! قد تتساءل: لماذا لا ينتظرون حتى يتم تسويق المنتجات التي تم عرضها بشكل جيد، ثم يقومون بعد ذلك بإنزال المنتج الجديد؟!
إنهم لا يفعلون ذلك؛ لأنهم يجزمون بأنهم لو تأخروا يوماً واحداً أو أقل من ذلك فإن شركة أخرى ستقوم بالمهمة وبذلك يخسرون....! ترى ماذا يخسرون؟!
وبالتفاتة عاجلة إلى المجتمعات المسلمة نشعر بـ (دوار حضاري)، ونستنشق تقليدية مقيتة، تستوجبان الإسراع في صناعة سفينة الإبداع لتبحر في ذلك الخضم صوب بلاد ما وراء التقليد في طريقها إلى جزر الاكتشافات العلمية والتقنية، ولا سيما أنها تملك الإطار العقدي والقيمي الصحيح الذي يحث على العمل المبدع المخلص، ويجلّ حملة لوائه ورافعي رايته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [حديث حسن، صحيح الجامع 1880].
وتتأكد أهمية اقتناء سفينة إبداع للعاملين في الحقول الإسلامية في هذا الوقت بالذات، الذي تكالبت فيه العوائق والصعوبات، وتفاقمت فيه الانشطارات والانقسامات، وشحت فيه الموارد والمساعدات. والتفكير العلمي والإبداعي يضمن بالإخلاص والمتابعة التغلب على تلك المشاكل والأزمات، ويرسم طريقاً تعرف فيه الأولويات، وترسخ به الثوابت، وتميز به الصفوف، وتلتحم به العلاقات، وينهض به العمل الإسلامي، وتطيب ثماره، وتدار مشاريعه ومؤسساته، وتستكشف آفاقه ومجالاته.
وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام بمصدر التلقي كتاباً وسنة وبعد توفيق الله ـ تعالى ـ وعونه:
1- الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانيته، وبضرورة انبثاقه من قوله ـ تعالى ـ: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد: 11]، الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد سواء، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمعرفة ذاتها، ولا لتحصيل لذة عقلية، ولا للظفر بشهرة علمية، ولا لتحقيق رغبة دنيوية، وإنما هو انجذاب للمعرفة بقصد تطوير الذات وبنائها، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً... وإنما للإبداع وللنهوض وللنماء وللعطاء.. المراد به وجه الله ـ تعالى ـ.
2- الإشاعة في العقل المسلم والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تكتسب بشيء من البذل في تعلم وسائلها، والتلبس في خصائصها، والتدرب على تطبيقاتها.
3- تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعاً للإبداع ومحضناً للمبدعين، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية، ومن ثم في وسائلها وبرامجها، بمعنى أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية.
4- صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل متلبس به، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول.
5- تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح العمل الإسلامي.
6- ضرورة تلبس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ـ ولو تكلفاً ـ تجسيداً للقدوة الصالحة.
7- الاحتفاء بالمبدعين وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنوياً ومادياً.
من تقنيات الإبداع الجماعي: العاصفة الذهنية(10):
هي طريقة تستخدم من أجل حفز الذهن لتوليد الأفكار (صممها أوسبورن في 1938م)، وتتلخص في طرح مشكلة معينة على مجموعة من الأفراد، يتولى إدارة تلك العاصفة واحد منهم يمتاز بأنه يستطيع:
* تهيئة المناخ المناسب لتوليد الأفكار.
* إثارة الآخرين لتقديم وعرض أفكارهم.
* الانتقال والربط بين أجزاء الموضوع المختلفة بشكل منطقي.
وتمر هذه العاصفة بالمراحل التالية:
أ - توضيح وتجزئة المشكلة: وذلك بتفتيتها إلى أجزاء ومطالبة المشتركين بالتفكير فيها.
ب - توليد وعرض الأفكار: وذلك بإتاحة الفرصة للمشتركين للانطلاق في توليد الأفكار، وفي هذه المرحلة ينبغي لمدير العاصفة الذهنية مراعاة ما يلي:
* عدم السماح لأحد بمهاجمة أفكار الآخرين أو الحكم عليها أو التعليق عليها إيجاباً أو سلباً.
* خلق مناخ يتقبل أي أفكار غريبة أو خيالية، وعدم إبداء أي نوع من السخرية تجاهها.
* التأكيد على أهمية توليد وعرض أكبر قدر ممكن من الأفكار.
* تسجيل الأفكار المطروحة بلا استثناء (يفضل تعيين أحد المشاركين للتسجيل).
ج - تقويم الأفكار المطروحة: وذلك بنقدها وتمحيصها وصولاً للفكرة المناسبة.
وتستغرق هذه العاصفة الذهنية عادة من 15 ـ 60 دقيقة بمتوسط 30 دقيقة، ويفضل أن يكون عدد المشاركين ما بين 5 ـ 7، ويجب ألا يزيد العدد عن 15 مشاركاً.
ويمكن استخدامها في المشكلات التي تتطلب حلولاً كثيرة كالمشكلات التجارية (مثل الإعلانات) والمشكلات التقنية (مثل كيفية استخدام الحاسب الآلي ومواصفاته) والمشكلات التربوية (مثل احتواء الشباب)، كما أنها أثبتت فعاليتها في مجالات البحث والتطوير &.
ولعله من المناسب في هذا السياق أن أشير ـ كدليل على أهمية الإبداع الجماعي لا سيما في المشكلات المعقدة ـ إلى أن اختراع (الترانزيستور) الذي أحدث ثورة إلكترونية ظهر كنتاج لإبداع جماعي... ولقد أكد عدد من المبدعين أن:
ـ (الجماعة تستوعب المشكلات أكثر).
ـ (لدى الجماعة تنمو ظروف الصياغة والإعداد المتكامل للمشكلات).
ـ (في إطار الجماعة تتسع دائرة الرؤية وتوزع المهام)... فهل نجتمع لنبدع؟!
وهذا لا يعني أن الإبداع يستحيل تحققه فيمثل تلك الحالات المعقدة إلا في إطار الجماعة، وإنما المقصود التأكيد على أهمية العمل الجماعي الإبداعي.
إبداع المدير... متى؟
إنه ليس ثمة شك في أن ما سبق من حديث عن الإبداع وجوانبه المختلفة يصلح للإنسان رجلاً وامرأة.. صغيراً وكبيراً.. مديراً ومداراً.. غير أن وظيفة المدير تنتظم أعمـالاً وأهدافاً ذات خصوصيـة وخطـورة بالغتـين تفرضان توجيه خطاب إبداعي خاص للمدير.. ومن هنا أقول:
إن المدير المبدع هو من يقود مؤسسته إلى النجاح ـ بعد توفيق الله ـ،... ويتلمس المشكلات التي قد تفترس ذلك النجاح... إذاً فالمدير المبدع هو من يتعرف على أسباب النجاح وقنواته ويتكلف في امتطائها.. إن عوامل النجاح في المؤسسات التجارية والتربوية والتعليمية تدور حول عوامل خمسة حث عليها الإسلام ورغب في استخدامها وتفعيلها في غير ما نص، وهذه العوامل هي:
1- الطاقم البشري: إن المدير المبدع يعرف كيف يستغل من تحته من الموظفين والعاملين، ويدرك مواهبهم وامتيازاتهم، ويفهم نفسياتهم ودوافعهم، ويحسن تشجيعهم ودفعهم، ويتقن تحريض أفكارهم واستفزاز إبداعهم، ويضمن تفاعلهم مع بنك المؤسسة الخاص باقتراحات التطوير واستشراف المستقبل.. في عام 1991م تمكنت شركة تويوتا من توفير مناخ خاص لموظفيها وعمالها نتج عنه تقديم 2 مليون اقتراح في ذلك العام بمعدل 35 اقتراحاً لكل واحد منهم، وقد استُفيد من 97% من تلك الاقتراحات.. فماذا عن مؤسساتنا والاقتراحات؟؟!!(11).
2- الوقت: يتصف المدير المبدع بالاستخدام الأمثل للوقت، ويعرف متى يجب أن يغير من الأساليب الإدارية والتنظيمية والنفسية، ويسرع في الاستجابة لطلبات العملاء، ويختار الوقت المناسب لإنزال المنتج الجديد، ويدرك أهمية الالتزام بالمواعيد..
3- الجودة: تشكل الجودة العالية قضية يوليها المدير المبدع اهتماماً كبيراً.. لا سيما في وقت اشتدت فيه المنافسة، واحتدم فيه البحث عن السلعة والخدمة ذات الجودة العالية في الجوهر والشكل والتصميم والحجم.
4- التكلفة: باتت إدارة التكاليف بغرض تخفيضها تشكل محوراً رئيساً لا في نجاح المؤسسات فقط، وإنما في قدرتها على البدء أو الاستمرار في العطاء.. ومن هنا فالمدير المبدع هو من يستطيع إقناع الجميع بصورة بلورة برنامج (تقشفي) لتخفيض التكاليف، مع ضمان تفاعلهم عند تنفيذه في الواقع.
5- الابتكار (الإبداع): القدرة على الابتكار وحمل الآخرين عليه وتوفير مناخه صفة هامة يتمتع بها المدير المبدع، وعلامة تميزه عن (مدير الجمود) و (رئيس التقليد)... إن المدير المبدع يدرك أهمية إقامة الدورات المتخصصة في الإبداع لموظفيه، ويعد الأموال المصروفة في ذلك استثماراً في أصول بشرية. أصبحت كثير من الشركات الكبرى مقتنعة بإمكانية وأهمية تعلم الإبداع، فشركة (جنرال إلكتريك) تفيد: (أن دورات الإبداع التي نظمتها لمديريها ومهندسيها أسفرت عن إدخال تحسينات جوهرية على بعض منتجاتها مثل جلايات الصحون وأدوات المطبخ، وشركة ميد تقول: (إن التدريب على الإبداع ساعدها كثيراً في تطوير نوع من الورق الناسخ الذي لا يحتاج إلى استخدام الكربون)(12).