إرفعوا إيديكم عن الجنه
عادل حموده
الأهرام 27 مارس 2004

تخيل نفسك مسترخيا علي مصطبه من الرمال‏..‏ في قلب غابه من النخيل‏..‏ بجوار عين مياه طبيعيه‏..‏ والقمر ينشر اشعته الفضيه الخالصه ليخفف من عتمه السواد‏..‏ والنجوم تضوي‏..‏ وهي تقطر حليبها الصافي‏..‏ قطره‏..‏ قطره‏.‏
في واحه سيوه البعيده عن صخب القاهره‏,‏ وتلوثها وتهورها عشت اياما في هذه الحاله‏..‏ منتشيا بسكون الطبيعه‏..‏ متوحدا معها‏..‏ مستسلما لها‏..‏ غير مصدق انني عدت اليها‏..‏ المكان يسمي قريه جعفر‏..‏ والاسم لولي من اولياء الله الصالحين له مقام هناك‏..‏ والقريه بناها خبير محترف في السيطره علي البيئه هو الدكتور نعمت الله‏..‏ اختار موقعها علي انقاض قريه قديمه‏..‏ يحاصرها جبل يسمي الجبل الابيض‏..‏ او اداريرا اميلال بلغه الازميه‏..‏ اللغه المحليه التي مايزال يستخدمها السكان المحليون‏..‏ وخلفها بحيره عريضه مالحه من بقايا البحر المتوسط الذي كان يسيطر علي هذا المكان في يوم قديم‏..‏ زمان‏.‏

لا كهرباء‏..‏ لا تليفونات‏..‏ لا تليفزيون‏..‏ لا اقمار صناعيه‏..‏ لاصحف‏..‏ لافيديو كليب‏..‏ لاتوتر‏..‏ لا تلوث‏..‏ بل شموع من خلايا النحل‏..‏ وفراش من سعف النخيل‏..‏ ومبان مشيده من خامات البيئه‏..‏ لا سرقه‏..‏ لا كذب‏..‏ لا ابواب مغلقه بالترابيس‏..‏ بل وجوه سمراء نحيفه مبتسمه‏..‏ لسانها لم ينفلت‏..‏ واعصابها لم تنكسر‏..‏ وسكونها النفسي لم ينفجر‏..‏ وتطلعاتها الماديه المجنونه لم تجبرهاعلي الفساد والعفن‏.‏
لقد منحت الطبيعه سيوه الفرصه كامله للتوفيق بين المتناقضات الحاده‏..‏ فعيون المياه تتفجر رغم الجفاف‏..‏ والخضره لا تخاصم الصحراء‏..‏ والظل يعاشر الحر‏..‏ والبساطه تفرض وجودها رغم شموخ الجبال‏..‏ ان ذلك هو ما جعل سيوه رمزا للطهاره البيئيه‏..‏ لا يوجد له مثيل علي كوكب الارض الذي افسده البشر‏..‏ وعجنوه بالتلوث‏..‏ وجعلوا الاقامه فيه اقامه في مدخنه مصنع ينفث الهباب‏..‏ تغطيها سحابه سوداء‏..‏ وتساندها عوادم سيارات‏..‏ والهرمونات‏..‏ والسرقات‏..‏ والصراعات‏.‏

ولعل ما انقذ سيوه من هذا المصير هو بعدها عنا‏..‏ وعمقها الضارب في الصحراء‏..‏ والتاريخ‏..‏ انها اقدم واحه تقع تحت سطح البحر المتوسط بنحو‏17‏ مترا‏..‏ وتصل مساحتها الي نحو‏55‏ الف كيلومتر مربع‏..‏ ولايزيد عدد سكانها علي‏20‏ الف نسمه‏..‏ وهم خليط من العرب والمصريين والبربر والسودانيين‏..‏ يعيشون في‏11‏ قبيله‏..‏ يقرر شيوخها بالتشاور قواعد المعاملات والعقوبات‏..‏ ويستمدون القدره علي الحياه من‏200‏ عين مياه لا يستعملون منها للري والشرب سوي‏80‏ عينا‏..‏ بعضها يخرج من بطن الارض ساخنا بجوارها عيون بارده‏..‏ وقد تجد عيونا عذبه وسط مستنقع من الملح المكثف‏.‏
ويقال ان اول من بني سيوه ملك قبيله تسمي اخميم‏..‏ ارسل اليها ابنه علي راس جيش كبير من الجنود والحرفيين لبناء مدينه في قلب الواحه‏..‏ وقد بنوها من سبع طبقات‏..‏ الاولي لابن الملك وهو الحاكم‏..‏ والثانيه للمهندسين‏..‏ والثالثه للامراء‏..‏ والباقيه للعامه‏..‏ وقد تكرر اسلوب البناء علي ذلك النحو‏..‏ فنحت السكان احياءهم السكنيه في جبال مرتفعه‏..‏ مايزال نموذج منها قائما فيما يسمي شالي‏..‏ وحتي وقت قريب كان الناس يسكنونه‏.‏ وعرفت سيوه باسم بنتا وباسم سانتاريه وباسم واحه امون نسبه الي الاله امون اشهر الهه الفراعنه‏,‏ الذي بني له كهنته معبدا سمي بمعبد الوحي او جوبتر امون‏..‏ وبين هؤلاء الكهنه كانت امراه تسمي ام بيضاء او مبيوضه كان ياتي اليها الناس لزيارتها للتبرك بها‏..‏ وفيما بعد جاء صنع الناس الها جديدا خلفا لامون هو سيوه‏..‏ ومن هناك اشتق اسم الواحه‏.‏ وقد جاء الي معبد امون الاسكندر الاكبر سيرا علي الاقدام في عام‏331‏ قبل الميلاد‏,‏ ليقنع المصريين بانه مؤمن علي طريقتهم‏..‏ وهو ما وفر عليه قتل‏20‏ الف جندي كانوا سيقتلون وهم يفتحون مصر‏..‏ لقد فهم ذلك العبقري المقدوني ان السيطره علي عقول وقلوب المصريين تمر بطريق واحد هو احترام ديانتهم‏..‏ وقد استوعب الدرس نفسه نابليون بونابرت‏..‏ لكنه لم يحقق ما حققه سلفه‏..‏ وعاد منكسرا وحيدا الي بلاده‏.‏

ان الحياه والعزله والبعد عن شرور الطرق السهله المفتوحه‏,‏ هي التي حمت سيوه‏,‏ فهي تبعد عن القاهره بنحو‏820‏ كيلومترا‏..‏ واقرب مدينه اليها هي مرسي مطروح‏..‏ وهي تبعد عنها بنحو‏306‏ كيلومترات‏..‏ وهي محاصره ببحار من الرمال‏..‏ وبجبال صخريه‏..‏ وهي كلها عوامل منحتها البركه والحصانه والحمايه الطبيعيه‏..‏ هي عوامل جوهريه اخرت بلدوزرات الانقلابات الحضاريه الحديثه في الوصول اليها‏..‏ هي التي حصنتها الي حد كبير من اختراقات جمعيه اصدقاء الاسمنت المسلح‏..‏ وان حدثت تجاوزات من جهات رسميه شيدت مبانيها دون احترام لخصوصيات البيئه‏..‏ وعلي راس هذه الجهات صدق او لاتصدق هيئه تنشيط السياحه ومبني قسم الشرطه‏,‏ وان كانت المباني الجديده مثل بنك القاهره والسينما وقصر الثقافه خضعت لقوانين البيئه وشروط ما حولها‏.‏
اما الفضيحه الكبري التي افزعت رئيس المجلس الاعلي للاثار الدكتور زاهي حواس‏,‏ فهي ما فعله رئيس مجلس مدينه سابق في سيوه بحمام كليوباترا‏..‏ ان هذا الحمام الذي يسمي عين الشمس يقع بالقرب من معبد امون‏,‏ وهي تتميز بتغير درجه حرارتها والوانها بتغير حركه الشمس طوال النهار‏..‏ وقد اطلق عليها حمام كليوباترا بسبب اعتقاد شائعه ان الملكه المصريه الشهيره قد استحمت فيها‏..‏ وهو ما اغري المسئول السابق بتغطيه الحمام بالبلاط القيشاني والسيراميك‏..‏ وقد عادت العين التي وصفت في القران الكريم بعين حمئه الي طبعيتها التي كانت عليها‏.‏

وتمادت التجاوزات لتشمل الحيوانات البريه والمشغولات الشعبيه‏..‏ ان رحلات الصيد التي يقوم بها القادرون قضت علي اعداد كبيره من الانواع البيضاء المحدوده من الغزال الابيض‏..‏ لم تتوقف هذه المجازر التي جرت في حراسه رسميه‏..‏ وهو ما جعل محافظ مطروح الفريق محمد الشحات يصدر اوامر صارمه بعقاب كل من يرتكب هذه الجريمه البشعه‏..‏ وجاءت سيده المانيه الي الواحه وبقيت فيها عده شهور‏,‏ اشترت خلالها بنقود قليله كل تراث نساء سيوه من الحلي القديم وهربتها الي بلادها لتكسب من ورائها الملايين‏.‏لكن‏..‏ كل هذه التجاوزات لم تفقد سيوه ملامحها‏..‏ وفي ظل الوعي البيئي المتزايد‏,‏ بدا ان الفرصه سانحه لاصلاح ما افسده الغزاه البرابره‏..‏ وقد ظهر ذلك واضحا في ندوه دعت اليها السفيره فايزه ابوالنجا وزيره التعاون الدولي حول تنميه سيوه‏,‏ شارك فيها وزير الصناعه الدكتور علي الصعيدي‏,‏ واعتذر عن عدم حضورها وزير البيئه ممدوح رياض‏,‏ ومحافظ مرسي مطروح الفريق محمد الشحات وتحمس لها سفراء بريطانيا وسويسرا والنمسا وايطاليا وهولندا وكوت ديفوار وكندا وموزمبيق وانجولا‏..‏ وكان التحدي الواضح امام جميع الاطراف‏..‏ كيف يمكن تطوير سيوه دون افسادها؟‏..‏ كيف يم
كن تنميتها دون الاخلال بالبيئه المتميزه؟‏.‏
ان التجارب السابقه في تنميه مثل هذه المناطق البريه البريئه‏,‏ كانت في غالبيتها فاشله‏..‏ مدمره‏..‏ لقد دمر غزاه السياحه في شرم الشيخ طبيعه البيئه التي كانت غنيه بالكائنات البحريه الساحره‏..‏ جاء الاسمنت علي عجل‏..‏ فانتحرت هذه الكائنات انتحارا جماعيا‏..‏ وهاجرت هربا من الزيوت الخانقه‏..‏ وسبق ذلك تدمير واحتي الخارجه والداخله بحجه تعمير الصحاري‏..‏ وضاعت المياه وضاعت البيئه‏,‏ ولم تعمر الصحاري‏..‏ وهو ما تكرر ايضا في الساحل الشمالي‏,‏ الذي تحول الي غابه من الاسمنت انفقنا عليها نحو‏40‏ مليار جنيه دون استفاده حقيقيه‏.‏

بالحماس نفسه الذي دمرنا به تلك المناطق‏,‏ التي كانت ساحره وبريئه وجميله‏,‏ رحنا نتحدث عن تعمير او تدمير سيوه‏..‏ فهناك من يتحدث عن ضروره الاسراع ببناء مطار للطائرات المدنيه‏,‏ وهو ما يعني سهوله وصول الغزاه والمدمرين بسرعه كبيره‏..‏ وهناك من اعلن عن امكان زراعه ثلاثه ارباع المليون فدان دون حساب كميه المياه ولا عمرها الزمني‏..‏ وهناك من يصرح بان المستقبل في سيوه للسياحه‏..‏ وتدعو النشرات الملونه ملايين السياح للتمتع بالواحه التي ماتزال علي ما هي عليه منذ الازمان الجميله‏..‏ لكن‏..‏ الي اي مدي ستبقي علي ما هي عليه؟‏..‏ ولو كانت هناك فنادق تراعي شروط البيئه فهل ستراعي الفنادق التي ستبني فيما بعد هذه الشروط؟‏..‏ ان التجارب السابقه في اماكن اخري لم تكن علي مايرام‏..‏ فقد جاءت السياحه علي حساب البيئه‏.‏ ان عمليه التنميه قبل ان ترسم خططها وتصوراتها‏,‏ يجب ان تبدا برصد دقيق لكل امكانات سيوه‏,‏ خاصه من موارد المياه‏..‏ فهي سر الحياه وعينها وحبات قلبها‏..‏ لايمكن ان نفكر في مستقبل هذه الواحه العريقه دون ان نعرف معرفه حاسمه‏,‏ موقفها المائي‏..‏ حجمه‏.‏ مستقبله‏..‏ عمره الافتراضي‏..‏ وبناء علي ذلك نفكر في افضل سبل استغلال هذه المياه‏..‏ دون الاخلال بحقوق البشر الذين يعيشون هناك في البقاء والنمو والاستمتاع بحياتهم‏..‏ دون الاخلال بحقوقهم في التعامل مع سبل الحضاره العصريه المتطوره‏..‏ وهي سبل تفسد البيئه وتغيرها‏..‏ لكن‏..‏ يكفي هذا الكم الاجباري من التغير والافساد ولا نضيف له ما ياتي به الغرباء‏.‏

انني لست متفائلا من الهجوم علي سيوه‏..‏ ولا اصدق كل التصريحات الورديه التي تقال عنها‏..‏ واخشي ان تؤدي الصراعات الاداريه التي تشتهر بها البيروقراطيه المصريه الي شطب ما هو قائم‏..‏ لذلك‏..‏ اعلن دون تردد ان ارفعوا ايديكم عن سيوه‏..‏ ابعدوا عنها‏..‏ اتركوها في حالها‏..‏ احموها من شروركم وتصريحاتكم‏..‏ اجعلوها محميه طبيعيه‏..‏ ويكفي ان تكون صوره طيبه لمصر في العالم كله‏..‏ صوره نادره لبيئه نظيفه‏..‏ يكفي ذلك ليكون لنا شئ واحد ناجح يحترمنا بسبب محافظتنا عليه‏..‏ الزراعه التي فشلت في الوادي لن تنجح هناك‏..‏ والسياحه التي بقيت رخيصه في اماكن جميله لن يرتفع سعرها هناك‏..‏ والصناعه التي لم تنجح في تصدير منتجاتها الي الدنيا لن تنقذها سيوه‏..‏ النجاح الوحيد الذي علينا تحقيقه سهل جدا‏..‏ ان نترك الطبيعه والبشر هناك كما خلقهم الله‏..‏ فالطبيعه لاتخون نفسها‏..‏ والبشر الذين بقوا ملايين السنين رغم كل الظروف سيواصلون الحياه دون مسانده او مساعده منا‏..‏ فقط ابعدوا عنهم‏.‏

و أخيرا

هل علمتم الكنز؟
انه الماء ، فبصفتي العلمية أقول لكم بكل ثقة إن المياه الجوفية هناك تكفي لتزرع ما لا يقل عن مليون فدان و لا تتعجبوا ، إنها حقيقة واقعه فالصور الهيدروجيولوجية للأقمار الصناعية و الاستشعار عن بعد و التحليل الجيوكيميائي للمياه الجوفية لا تكذب و لو تم توجيه الاستثمار و تطبيق أحدث أساليب الري لأمكننا إن نسد الفجوة الغذائية الكبرى التي نعاني منها بلا داعي!

د. أحمد مصطفي كمال
أستاذ مساعد بمركز البحوث الزراعية
مصر