ياسين الجيلاني - كثيراً ما يعاني مجتمعنا التعليمي من ظاهرة الغش لدى طلابه، خاصة في الامتحانات الفصلية والنهائية، ويعاني أكثر حين يصور الوهم لأصحابه، بأن خير وسيلة للنجاح هو الغش في الامتحان، وهذا يعني؛ أن المشكلة ليست في الامتحانات ذاتها... فكل دول العالم تجري امتحانات مدرسية وعامة وجامعية، لتقييم تحصيل أبنائها الدراسي، ومع هذا لا تعاني ، أو أننا لا نسمع أنها تعاني كما يعاني مجتمعنا التعليمي من الغش، مما يعني أيضاً أن المشكلة فينا، في طرائقنا للتعامل مع هذه الظاهرة المرفوضة.
واليوم ... يبدو أن الغش غدا في حد ذاته هدفاً، وهاجس العلامة هو المسيطر على عقول الطلاب وتفكيرهم، فالغش سواء كان في التعليم الإلزامي أم الثانوي أم الجامعي، لا يدل على الشعور بالمسؤولية الاخلاقية، لأنه طريقة مختصرة للحصول على ما يريد الطالب، دون جهد، ودون تحصيل، لنيل الدرجات العالية، بلا مشروعية ولا حق.

فالأصل في الامتحان أنه وسيلة لا غاية، وأنه مقياس يعتمد عليه، لينتقل الطالب من مرحلة إلى اخرى من مراحل التعليم، ولكن بعض أخلاق الطلبة جرت بما يناقض هذا المفهوم أشد المناقضة، فأصبح الامتحان غاية لا وسيلة، فما دام الامتحان غاية، فالنجاح فيه هو غاية الغايات.
إن مشكلة الغش في الامتحانات باتت في الآونة الأخيرة، تشكل أزمة ومؤشرا سلبيا على الخلل التربوي فيه، يتأثر به تعليمنا كلّه على اختلاف فروعه وتخصصاته أشد التأثر. فيفسد بها أعظم الفساد، والغش لا يفسد التعليم وحده، ولكنه يفسد الأخلاق ايضا، ويفسد العقل والإنسان معاً، ويكاد يجعل بعضنا لبعض عدواً، ويضع مصداقية الامتحانات وموازين التوظيف والترقيع في أجهزة الدولة موضع الشك، ويكاد يجعل التعليم خطراً على النظام الاجتماعي نفسه. انها مشكلة الغش... أليس كذلك؟.
أما عن أسباب الغش وذرائعه عند طالب المدرسة فهي عند البعض طريقة للتغلب على المعلم وهيمنته، أو يرغب بإقدامه على هذا العمل في الظهور أمام الاقران مغامراً وجريئاً، حتى لو ضبط الطالب وهو يغش، ثم عوقب بشدة، فإنه قد يبدو لأقرانه وكأنه شهيد أو بطل، والبعض يغش خشية الرسوب في صفه، وخوفاً من عقاب أهله، وأحياناً تكون زيادة الاهتمام بترتيب الطالب وفق تقدمه، سبباً في إقدامه على الغش أيضاً...الخ
وفي بعض الأحيان، قد يكون الآباء أيضاً، السبب في غش الطالب ، ومن المحتمل أنهم يطالبونه بما لا طاقة له به، فلا يمكنه تحقيق تلك المستويات إلا بالغش...وهنا لا بد من ذكر ما حدث في العام الماضي، وتحديداً في امتحان الثانوية العامة، حين اقتحم بعض الآباء قاعات الامتحان في أكثر من مكان، لإجبار رؤساء القاعات والمعلمين، إتاحة الفرصة أمام أبنائهم للغش فيه، وسواء حققوا هدفهم أم فشلوا فيه، فإن تصرفهم هذا غير المسؤول وغير الأخلاقي، يدل كما لو أن المعلم في مجتمعنا دخيل وعدو، وليس عضواً منتجاً وفاعلاً به.
أما الغش في امتحان الثانوية، ففيه إساءة لسمعة الوطن في الداخل والخارج، لأنه في حد ذاته، يمثل هيبة الدولة ومسؤوليتها، فالامتحان من الرموز الوطنية التي لها قدسيتها، وخط أحمر لا يجوز إختراقه أو التطاول عليه، أو الاعتداء على قياداته التربوية والتعليمية... وهنا نسأل لماذا يغش طلبة الثانوية العامة؟
البعض منهم يؤمن "بأن لا شيء يولد النجاح خير من الغش فيه" وإن نظرتهم هذه تختلف باختلاف المنافع والأهواء.. والبعض الآخر يغشون ليحققوا أعلى النسب والدرجات والمعدلات، لكي يلتحقوا بالجامعات الرسمية، الأقل كلفة مالية، وكثيراً ما يتساءلون: أين هو الطالب في زماننا الذي لا ينشأ على إعتبار الوسائل غايات، والغايات وسائل؟ وأين الطالب الذي لا يشعر بأنه أمام غاية يجب أن يبلغها، وهي أن يؤدى الامتحان وينجح فيه؟ وهو يشعر بهذا في المدرسة، ومن معلمه ومن أترابه، ويشعر بهذا في البيت من أبويه اللذين قد يجهلان من أمور التعليم كل شيء، إلا أنه ينتهي به إلى الامتحان؟ وآخر يسأل: لماذا ينبغي عليّ أن أحفظ دروسي وأسهر الليالي لينال التعب مني؟ فالطلاب الذين يغشون يحصلون على أعلى المعدلات والدرجات.
وآخرين يتساءلون : كيف يطالبنا المجتمع بعد ذلك، بالحرص على النقاء والسمو، والترفع عن الغش، وكأنه من عظائم الأمور، أو كأن الامتناع عن الغش هذا درس له قيمته في تعلمنا الشعور بالمسؤولية، ومبادئ العفة والفضيلة، التي لا معنى لها في عصر العولمة.
ولا شك؛ أن معظم مناهجنا التعليمية، لا تفسح للقيم الخلقية المساحة التي تستحق، لكن الغريب – ولا غرابة في ذلك – أننا نجد هذه القيم قد أخذت في التلاشي – في عصر ثورة التكنولوجيا- عند بعض الطلاب في الآونة الأخيرة...ويسأل المرء عن سبب هذا التلاشي، فلا يكاد يجد سوى تعليلٍ واحدٍ، ألا وهو شعور بعض الطلبة الضمني، بعدم جدوى الأخلاق في الحياة التعليمية، إلا إذا انتقل الطالب بها إلى مجال التطبيق "النفعي"، وما النفع إلاانجاز قائم على الغش، في كل امتحان، وفي كل مرحلة دراسية.
وبعيداً عن تلك القيم الخلقية والتربوية والمسلكية الواجب اتباعها... فهل تكفي هذه المبررات والمسوّغات التي يسوقها الطلبة، الراغبون في الغش دوماً، أن يصبح الغش في زمانهم أمراً مباحاً.
إن انتشار الغش يحطم الروح المعنوية ويزعزع الثقة بالنفس، لأنه يقضي على الباعث إلى التعليم، ويظهر التحصيل المبني على الأمانة وكأنه لا قيمة له... ومن هنا؛ ينبغي على الآباء والأمهات والمربين، أن يؤكدوا باستمرار، خاصة للأطفال، أن لا ينظروا إلى الغش على أنه عمل سيء، أو سلوك انساني خاطئ، وغير أخلاقي فحسب، بل عليهم أن يوضحوا لهم، أنه كالسرقة وعدم الأمانة والنزاهة، وإن عملهم هذا يتنافى وما جاءت به الأديان السماوية، وقول رسولنا الكريم: "من غشنا فليس منا".
أما دور المؤسسة التربوية في الحد من الغش، فإن مقتضيات المصلحة الوطنية تقتضيها – بعد أن امتلك معظم الطلبة وسائل التكنولوجيا وتقنياتها المتطورة، ومعها تعددت طرائقهم وتنوعت أساليبهم في الغش الخفي المنظم – إعادة النظر في تعليمات الغش وتطبيقاته ومحدداته – وإيجاد آليات الكترونية جديدة متطورة ضابطة مانعة، لمنع تلك الممارسات الطلابية العابثة، التي تشكك في مصداقية الامتحانات، وتخون أمانة المسؤولية المناطة بها، لتسد روح العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص في نتائج الطلاب على السواء.
وشكرا .
مع تحيات عاطف كامل