في عام 1833 اتخذ محمد علي باشا قراراً بإنشاء مدارس المبتديان الابتدائية تماشياً مع السياسات الجديدة التي أقرها ببناء جيش قوي، فالقوة العسكرية يجب أن توازيها قوة معرفية وعلمية ترتقي بوعي الشعب وتجعله مؤهلاً لإدراك الواقع، لذا خرجت حملات محمد علي تجوب القري وتلف البلدان وتحمل الأهالي عنوة علي تعليم أبنائهم، وفق خطة وضعها أفندينا لنهضة البلاد التي رأي أن الارتقاء لا يكون إلا بالتسلح بالعلم ومحو الجهل من البلاد، فكانت النهضة العلمية والمعرفية التي صحبتها نهضة عسكرية وتنموية وزراعية، ثم تبعها وضع استراتيجية لتطوير نهج التعليم بمصر فأصدر الوالي قراره بإرسال البعثات العلمية إلي أوروبا واستقطاب المورد البشري الأوروبي إلي مصر لتعليم أبناء الفلاحين داخل الكليات العليا، فاستقطب كلوت بك لإنشاء مدرسة الطب بأبي زعبل وروح الدين أفندي من تركيا لتدشين المهندس الخانة.
ولأن مصر مرت بثورتين، فكان من الطبيعي عقب ثلاثة عقود أو يزيد من اضمحلال التعليم في مصر وانهيار مؤسسات الدولة التربوية في أداء دورها أن نطرح التساؤل محاولين إيجاد إجابات واضحة شافية، لماذا انهار التعليم الحكومي في مصر؟.. وما الجدوي من التوسع في إنشاء مدارس جديدة؟.. ومن يحاسب من؟.. هل هو المواطن المفعول به داخل العملية التعليمية أم الدولة ودورها كفاعل للنهوض بالمؤسسة التربوية؟
وعند البحث عن السبب الحقيقي للهروب من دائرة التعليم الحكومي، كان علينا أولاً محاورة هؤلاء المطحونين الذين وضعتهم الحياة رغماً عنهم هنا، أو بالأصح وضعت فلذات أكبادهم هنا، داخل مؤسسة حكومية تشرف عليها الدولة وتعلوها لافتة معلقة «إدارة إمبابة التعليمية» فكان الحوار الذي جمعني بأحد أولياء الأمور:
< برأيك لماذا يهرب الناس من التعليم الحكومي ليلتحقوا بالمدارس الخاصة واللغات؟
- يجيب ولي الأمر: ادخل دورات مياه التلاميذ وستعرف لماذا انهار التعليم الحكومي في مصر.
< قلت له: لكن زويل ومشرفة وطه حسين ومجدي يعقوب لم يتخرجوا في مدارس خاصة أو لغات؟
- فيجيب ولي الأمر: هؤلاء تعلموا وقت أن كان هناك تعليم حقيقي ودور فعال لمؤسسات الإشراف التربوي، وقت أن كان للمدرس هيبة وللمدرسة دور، لم يعد لا للمدرس قيمة أو للمدرسة وظيفة حقيقية، الدور الحقيقي يقع علي عاتق ولي الأمر وتكون مهمة المدرسة هي مرحلة تيسير أوراق لنضمن أن ابننا مقيد في قطار التعليم.
< لكن لماذا أنت حريص علي انتظار ابنك في الخارج.. أهو في الصفوف الأولية؟
- بالعكس هو في الصف النهائي لكن أخشي عليه من الأولاد المشاغبين حيث يصل الأمر إلي البلطجة فيسطون علي أدواته.. لذا أنا هنا أنتظره.



كوارث التعليم الحكومي
رصد تقرير حول وضع التعليم في مصر 10 حالات قتل لطلاب المدارس وأن الخطر يهدد طلاب المدارس المصرية في 4 مدارس بعقارب وثعابين وزواحف سامة، إضافة إلي 4 حالات اغتصاب وتحرش وانحلال أخلاقي ضد الطالبات، ووجود 13 حالة بلطجة ضد الطلاب وهو ما يشير إلي أن مدارس مصر صارت سلخانات تعذيب وليست منارة للعلوم والمعارف.
الأمر الذي يوضحه الدكتور سيد البهاص، أستاذ علم نفس النمو بكلية التربية جامعة طنطا، في حديثه لـ «الوفد»، موضحاً أن مصر ومؤسساتها التعليمية تعاني من ظاهرة العنف المدرسي وهي ظاهرة تعني في تعريفها المبسط بأن حالة من السلوك العدواني تنتاب بعض الطلاب فيتحفزون لزملائهم محاولين التسبب لهم في الأذي.
وحول أسباب هذه الظاهرة التي تفشت في تعليمنا الحكومي يجيب الدكتور البهاص: لا يجب أن نضع رؤوسنا في الرمال ويجب علينا مواجهة المشكلة، ولا أحد يستطيع أن ينكر تفشي ظاهرة العنف المدرسي في التعليم الحكومي المصري والأمر يعود للعديد من المسببات، أولها هو عدم وجود رقابة فعلية للعاملين بالمؤسسة التربوية علي التلاميذ وسلوكهم، وثانيها إهمال دور الإخصائي النفسي والمرشد أو الإخصائي الاجتماعي الذي صار عمله مجرد عمل مكتبي يكتفي بملء مجموعة من الاستمارات دون أن يفعل دوره الحقيقي في الوقوف علي أسباب بعض الحالات المرضية داخل الصف المدرسي، أيضاً فإن ظاهرة العنف المدرسي تنتشر في الأحياء الفقيرة بمصر عن الأحياء الغنية، نظراً لوجود حالة من التقزم يشعر بها الطالب ولا يستطيع أحد أن ينكر دور الإعلام وعرضه لأفلام العنف وظهور شخصية البطل المتشرد أو البطل البلطجي داخل الدراما المصرية أدي إلي تفشي هذه الظاهرة، لذا فالأسباب يجب أن تكون مطروحة ومعروفة للوصول إلي حلول فعالة يمكن بها القضاء علي هذه المشكلة، ولعل أبرز هذه الأسباب التفعيل الحقيقي لدور المعلم ثم الإخصائي النفسي داخل المدرسة ووجود رقابة علي ما تحقق من أهداف فعلية يتضح أثره علي سلوك المتعلمين.


غياب الرقابة
الخبير التربوي د. حسين الدريني، أستاذ علم النفس التربوي بجامعة الأزهر، يري أن انهيار التعليم الحكومي ليس سوي نتاج لما نشهده من أزمة ثقة بين المواطن والمؤسسة التعليمية التي تشرف عليها الدولة، بكل وضوح الناس فقدت الثقة في التعليم الحكومي الذي يتفشي فيه عدم الرقابة والوساطة والأهم هو عدم وجود المحاسبية.
وحول معني «المحاسبية»، قال: العملية التعليمية قائمة في الأساس الأول علي وجود مقدمات يتبعها وجود نتائج، وبالتالي فإن تقييم أي نظام تعليمي يتحدد بناء علي التغير أو الناتج، وحينما كنت مشرفاً علي نظام تعليمي بدولة إنجلترا كان النظام التقييمي يقوم علي فكرة تغير سلوك المتعلم ومعرفة هل بالفعل اكتسب مهارات جديدة تساعده علي تفعيل دوره داخل المجتمع، وبالتالي اكتساب مهارات معرفية جديدة، للأسف في مصر نظام التقييم بيروقراطي قائم علي فكرة تقييم المعلم بكشكول التحضير ودفتر درجات أعمال السنة، لذا فالمخرج الفعلي هو مخرج وهمي لا يعبر عن نتائج حقيقية بدليل نجاح نسبة كبيرة مثلاً في الصفوف الابتدائية والكارثة أن التلاميذ لا يجيدون القراءة والكتابة.
وحول ندرة وعي ولي الأمر في هذه الأمور الأكاديمية، أجاب: ربما لا يعيها بشكل أيديولوجي لكن هناك مخرجات ومعطيات واقعية يراها ولي الأمر، فيفر بابنه من المدارس الحكومية إلي الخاصة واللغات، منها مثلاً أن المدارس الحكومية لا تطور من برامجها، فإذا كان جيل المرحلة الابتدائية هو جيل «الآي باد والآي فون» وتكنولوجيا التواصل الرقمي، فماذا أعدت المدرسة الحكومية لمواجهة هذه الطفرة؟.. إن حجرة التكنولوجيا داخل المدارس الحكومية يبقي دورها مقصوراً علي عرض كلاسيكي، وبالتالي علي الجانب الآخر تجد أن من وسائل القياس والتقويم في العملية التربوية مثلاً أن التلميذ يتواصل مع معلمه عبر الحساب الإلكتروني وأحياناً يكون هناك مجموعات علي العالم الافتراضي تتناقش في حل الواجب المدرسي وهو أمر لا يتم داخل المدارس الحكومية، ناهيك عن وجود نزعة استهلاكية أصابت المجتمع فأصبح التباهي عنصراً فعالاً في العملية التعليمية، وكل ولي أمر يتباهي بأن ابنه في المدرسة الألمانية والآخر في الفرنسية ونتيجة وجود منتج ردىء بحسب اقتصاد السوق يكون التعليم الحكومي في مصر هو سلعة الفقراء المجبورين عليها.
ويتساءل الخبير التربوي الدكتور الدريني عن دور المجلس الأعلي للتعليم الذي يفترض أن يكون محايداً بعيداً عن توجهات أو تغيير وزير وبقاء آخر لأنه يفترض أن يكون ضاماً لكوكبة من علماء التربية والمناهج وأصول التدريس وتكون مهمة هذا المجلس مقصورة علي وضع خطة أو استراتيجية تدريس مرحلية ذات مدة زمنية يفرض علي نفسه تحقيق أهداف قريبة المدي وأخري بعيدة المدي، لكن للأسف - والكلام للدكتور الدريني - هذا المجلس أضحي مرتبطاً بالوزير وتغييره يقتضي تغيير سياسات الوزير الماضي بمنطق الهدم وإعادة البناء، لذا فلا يوجد خطة أو استراتيجية واضحة لنظام التعليم في مصر، ولا يوجد سوي مخرج سوي مخرج واحد لإنقاذ التعليم الحكومي في مصر قائم علي تقويم المدرسية وتفعيل المحتوي.
ويطالب الدريني بتعزيز سياسة محاسبة المعلم علي الناتج الفعلي والسلوك التعليمي لدي التلاميذ ولا يقتصر الأمر علي دفاتر الإنجاز وأعمال السنة، والتقويم يعني إعادة ترميم بمعني أننا يجب أن نقوم أولاً بعملية قياس فعلي يتوفر فيها معياران «الصدق والثبات» لتقييم أداء المعلم والمتعلم ثم تليه مرحلة تقويم أي ترميم وتصحيح ما وجد فيه عيب، أما تفعيل المحتوي فأعني به الاهتمام بالمنهج المدرسي الذي هو أساس صناعة الإنسان في علوم التربية ولا يجب أن يكون هذا الاهتمام بشكل ورقي وإنما يجب أن يتم تفعيله.


رمضان مبروك أبوالعلمين
ماذا تنتظر من تلميذ يشاهد المعلم في الأفلام بهيئة محمد هنيدي في فيلم «رمضان مبروك أبوالعلمين حمودة».. هكذا بدأ حديثه حسن عمران، المعلم بمدرسة التعليم الأساسي وباحث الماجستير في قسم الصحة النفسية، موضحاً أن هناك حالة من الازدراء لدور المعلم داخل عقلية المواطن المصري وتحديداً التلميذ المصري الذي ينظر إلي معلم اللغة العربية علي أنه معتوه أو شخص يثير فيه الضحك أو السخرية.. ويتساءل: أين الرقابة الأخلاقية علي مثل هذه المشاهد التي جعلت من المعلم مسخاً؟.. علي عكس دولة مثل اليابان تفرض أن ينحني كل مواطن أمام المعلم بمن فيهم الوزراء، ثم أين الدور الفعلي للدولة في دعمها للمعلمين الذين يكملون دراستهم العليا؟.. للأسف هذه الدراسات تنجز ثم تكون حبيسة الأدراج والأرفف لا يتم العمل بها.
بينما تتذكر مديحة طنطاوي، إخصائية الخدمة الاجتماعية بالإسكندرية والباحثة في مجال الإنثربيولوجي المثل الشعبي «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» هكذا كان الحال في الستينيات وحتي أواخر الثمانينيات، كان التعليم الحكومي يدخل في زمرة الميري وترابه، تبدل الحال الآن وفقد التعليم الحكومي مكانته والمعلم هيبته، كان رسولاً فأصبح مرسالاً، يدخل بيت الطالب طلباً للرزق فيخلع هيبته وكرامته علي الباب وبالتالي تدني مستوي أداؤه في المدرسة آلية ضغط لدفع ولي الأمر للجوء إلي الدروس الخصوصية، للأسف بسؤال بسيط تستطيع أن تعرف حال التعليم المصري في ظل تسطيح وتقزم للعلوم الاجتماعية التي تعالج المجتمعات وتسعي لإيجاد حلول لمشاكلها والدليل المجتمع الأمريكي الذي تجد فيه تطوراً زاخراً للدراسات الإنسانية والاجتماعية التي تشخص أمراض المجتمع فتسرع لمعالجتها، أما في مصر فلا يوجد اهتمام بالعلوم الاجتماعية التي دورها الأساسي معالجة القصور في المؤسسة التعليمية، ودور الإخصائي الاجتماعي مجرد توقيع في دفتر الحضور والانصراف.


معوقات جودة التعليم
وينتقل الدكتور محسن الدهشان، خبير التربية إلي المقارنة بين التعليم في مصر والتعليم الحكومي بماليزيا والهند، موضحاً أن الجودة في مجال التعليم تتطلب جملة الجهود المبذولة من قبل العاملين في مجال التعليم لرفع مستوي المنتج التعليمي «طالب - فصل - مدرسة - مرحلة» بما يتناسب مع متطلبات المجتمع، كما أن جودة النظام التعليمي تعني أن يكون وثيق الصلة بالحياة، وأن يكون قادراً علي الوفاء بالاحتياجات الحالية والمستقبلية لهؤلاء الذين يتعلمون فيه ولاحتياجات المجتمع الذي يوجد فيه هذا النظام.. موضحاً أن السلبيات التي يعاني منها نظام التعليم المصري تقود مشروع الجودة إلي الهاوية، فالطلاب يعانون من أساليب التدريس القائمة علي التلقين التي يشيع فيها استخدام العقاب البدني، كما يتسرب بعض الأطفال من المدارس، ومن يتخرج منهم فهو مزود بحد أدني من المهارات التي لا تؤهله للمنافسة في سوق العمل، وهناك أيضاً مشكلات قائمة، إذ إن 30٪ من المباني المدرسية غير صالحة للاستعمال، وهناك نقص في وسائل التدريس الملائمة، أو التجهيزات الخاصة بالأنشطة الإضافية للمناهج وكذلك الترفيهية، كما أن انخفاض أجور المعلمين، بالإضافة إلي استخدامهم لطرق التدريس التقليدية من العوامل التي تفرز مناخاً لا يجعل الدراسة ممتعة بالنسبة لكل من المدرس والطالب، وهي تفسير تدني معدلات الإنجاز والتحصيل لدي الطلاب، والمدارس بشكل عام لا تلقي قبولاً لدي كثيرين من أولياء الأمور.
وإذا ما قورنت الجودة التعليمية في مصر بعدد من الدول التي حققت تقدماً منقطع النظير في هذا المجال كماليزيا والولايات المتحدة والهند، نجد أن الأولويات التي وضعت في تلك الدول كانت لتنمية الموارد البشرية، وفرضت تخفيض متوسط حجم الفصل، وعدد التلاميذ لكل معلم، وزيادة متوسط حجم المدارس، الذي تحسن بشكل ملحوظ في الخمس سنوات الماضية علي مستوي المدارس الابتدائية، فمتوسط حجم الفصل في المرحلتين الابتدائية والثانوية هو 31 و33 علي التوالي، ووصل متوسط حجم المدارس الابتدائية والثانوية - أي عدد الطلاب في كل مدرسة بين 400 و1000 علي التوالي - أما متوسط عدد الطلاب لكل معلم فقد وصل في المرحلتين الابتدائية والثانوية إلي 17 و16 علي التوالي.
ويكمل الدكتور الدهشان: وقد حققت ماليزيا إنجازاً جديداً أصبحت بموجبه حالياً من ضمن أفضل 10 دول في العالم التي تقدم التعليم ذا الجودة العالية إلي المجتمعات العالمية متجاوزة بذلك العديد من الدول المتقدمة الأخري، فقد عملت الحكومة الماليزية في مجال جودة التعليم الجامعي علي تحقيق ما يلي: اتباع المعايير العالمية في التدريس ونظم الدراسة وتحديد التخصصات والمناهج الدراسية (الاستخدام المكثف للغة الإنجليزية) ثم قيام القطاع الخاص بدور أساسي في مجال جودة التعليم الجامعي، إضافة إلي تصميم برامج ومناهج ترتبط بالبيئة التعليمية العالمية وعلاقتها بالتقنيات الحديثة ونظم المعلومات.
وافتتحت وزارة التعليم «مجلس الاعتماد القومي» ليقوم بوضع الخطوط العريضة للعملية الأكاديمية لمؤسسات التعليم النظامي والعالي العامة والخاصة، بعدها أسست الدولة قاعدة ممتدة لشبكة المعلومات في المؤسسات الجامعية وكذلك المدارس وأمدتها بموارد المعرفة والبيئة التحتية الأساسية اللازمة، وأخيراً تدعم الدولة جهود الأبحاث العلمية في الجامعات من خلال مؤسسة تطوير لتقنية الماليزية.
هذا هو الحال في ماليزيا والهند، ويبقي حال التعليم الحكومي بمصر موضع تساؤل: متي ستتم هيكلة وبناء المؤسسة التعليمية في مصر؟.. هو تساؤل يفرض نفسه بقوة علي القيادة السياسية في البلاد، طالما كانت الطفرات العلمية ملازمة للصيحات الثورية في مختلف البلدان ولعل تجربة يوليو 1952 شاهد واضح علي ازدهار النظام التعليمي بمصر إبان عهد جمال عبدالناصر.