الطفل طاقة تزخر بالحياة والنشاط ، وما تنفكّ هذه الطاقة أن تتفجّر في شكل لعب وحركات بريئة .فاللعب طبيعة فطرية في الطفل جعلها الله غريزة في نفسه تساعده في تنمية وبناء الجسد والعقل بشكل طبيعي ، فقد يكون اللعب عند الكبار وسيلة لملْء الفراغ أو التسلية ولكنه بالنسبة للطفل عملٌ مهمٌّ جدا وضروريٌّ له على كافة المستويات العقلية والنفسية والجسدية والاجتماعية والسلوكية .فاللعب هو حياة الأطفال ، وهو أحد الحاجات الأساسية للنمو الطبيعي لدى الطفل ، فهو نشاطٌ حيوي يساعد على البحث والاكتشاف والتجريب والإبداع واكتساب الخبرات ، وليس مضيعة للوقت وشغبا كما يعتقد الآباء .اللعب
يفتح الباب أمام الطفل للتعلم من خلال أدوات اللعب المختلفة التي تؤدي إلى معرفته للأشكال المختلفة والألوان والأحجام والتركيب والتحليل ، والتمثيل وتقمّص الأدوار ، والحصول على الخبرات والمعلومات المفيدة والمتنوعة من اللعب ، كما تفجّر في الطفل طاقات الإبداع والابتكار ، وتجريب الأفكار والاختراعات أحيانا ، والتي تنمّي الذكاء والقيم المهارية والفكرية لديه .إذا كانت هذه هي فوائد اللعب وضرورته في مراحل الطفولة ، لماذا نحاربه لدى أبنائنا ونقمعه بشتى أساليب القهر من تنبيه وتوبيخ وعقوبات جسدية ، تسبّب في أحايين كثيرة عاهات دائمة وتكون خطيرة تؤثر على الحياة المستقبلية للطفل .يقول الإمام الغزالي رحمه الله ( فإن منْع الصبيّ من اللعب ، وإرهاقــه إلى التعليم دائما ، يُميت قلبه ، ويبطل ذكاءه .)
في المدرسة :
الطفل الذي ينشأ على تلقّي الأوامر والنواهي والإذعان لتوجيهات الكبار ، وتلقّي المعرفة في المدرسة عن طريق التلقين والنسخ وحشو العقل دون مشاركة في اكتساب المعرفة ، والاسترداد لها حرفيا في الاختبارات والامتحانات ، تتربّى نفسيته وذهنه على موقف سلبي من نفسه ، ومن غيره ، ومن الحياة والكون ، ويكون دوما في وضعية إذعان ، بحيث يلوذ بالموروث ينشد فيه حلّ المشكلات . التلقين يعطل تطور التفكير ، حيث يتناقض مع إكْساب مهارة البحث والتقصّي في الواقع وتنمية مهارة الابتكار ..التلقين يعطل موهبة التفكير النقدي ويُبْقِي المرء على جهْل تام بالصيغ العلمية لدى تناول الأمور .وتتفاقم الحالة مع اعتماد التخويف والترويع أداة تربية وتهذيب للناشئة .( 9)
عطَــبٌ آخر أشدّ فداحة يكتنف العملية التربوية في مدارسنا ويتمثّل في حشْو المناهج الدراسية بالمعلومات التي يتوجّب حفظها عن ظهر قلب واستظهارها حرفيا في الاختبارات والامتحانات ..المناهج وطرق التدريس في تجدد وتطور مستمرين وفق تطور الحياة المعاصرة ووفق ما وصل إليه علم النفس ، وانعكس هذا التطور في بلادنا على المناهج وطرق التدريس التي جاءت بها المدرسة الأساسية في الثمانينات ، وما جاء بعدها من تجديد في المفاهيم البيداغوجية والأهداف والغايات كالأهداف الإجرائية والمقاربات ، والتدريس بالكفاءات وغيرها من الأفكار التربوية المعاصرة ، إلاّ أن القلة من الأساتذة والمعلمين تماشت مع هذا التطور وعملت به عن قناعة وتبصّرٍ ووعي ، وظلت وتحت ضغط الامتحانات والكم مرغمة على إنجاز البرنامج واعتماد التعليم وسيلة لذلك بدل التعلّم الذي يجعل المتعلم شريكا فعّالا في كسْب المعارف ..والمتعلم في هذه الحالة يتحايل على ضُعْف قدرته على الحفظ باللجوء إلى الغشّ ..ممّا يجعل هذا الغش حيلة متبعة لدى العديد من التلاميذ والطلاب ، وقيمة تربوية يحبّذها الأولياء ويغضّ الطرف عنها البعض من المربّين ..وهو واقعٌ موجود وخبرناه وعايشناه في أكثر من واقعة .ولا أعتقد كما يعتقد الكثيرون معي أن هذا النوع من التربية والتعليم يساعد على الإبداعية لدى أبنائنا .
إن الدراسات التربوية في العديد من البلدان أوضحت أن من أسباب معوّقات الإبداع في المجال التربوي والتعليمي :
أولا : التدريس التقليدي :الذي من جملة جوانبه أن يجلس التلاميذ مسمّرين في مقاعدهم في حجرة اكتظوا فيها ويصل عددهم إلى الخمسين وفي أحسن الحالات ، الأربعين كما هو الحال عندنا .وأن يمتصّ هؤلاء المعرفة الملقاة لهم كما يمتصّ الإسفنج الماء دون مشاركة عملية ، ممّا يعوق النشاط الإبداعي ونموّ القدرات الإبداعية .وساهم نمطُ القيادة التربوية لدي مديري المؤسسات التعليمية الاتباعي المقلِّد والمعادي للتجديد ، بل المقاوم لكل إصلاح لأن أغلب المقبلين على الإدارة التعليمية عندنا هدفهم الحافز المادي ، والتهرّب من التدريس ، وهالة المنصب ، وليس الهدف الحرص على تطوير الأداء التربوي والتعليمي .
يرى أغلب المدرسين وقد يشاركهم في ذلك العديد من المديرين ـ واقع موجود عايشنه وخبرناه ـ أن تنمية قدرات التلاميذ والطلاب الإبداعية عملٌ شاقٌّ ومضنٍ .فالتلميذ أو الطالب المبدع لا يرغب في السير مع أقرانه في مناهج تفكيرهم ، وقد يكون مصدر إزعاج للمعلم والمدير معا ، وغالبا ما يرفض التسليم بالمعلومات السطحية التي تُعرضُ عليه . كما يسبب بعض هؤلاء التلاميذ والطلاب حرجا لبعض المعلمين والأساتذة بأسئلتهم الغير المتوقّعة ، والحلول البديلة والمخالفة والغريبة أحيانا التي يقترحونها لبعض المشكلات العلمية والمعرفية المطروحة .كما أن المدرسة التي يسيطر عليها جوّ الصرامة المبالغ فيه والتسلّط غالبا ما تكون أقلّ المدارس في استثمار الإبداع وقدرات التفكير الإبداعي لدى تلاميذها أو طلاّبها .
ثانيا : ضخامة المناهج : كثرة المواضيع والمحاور بالمناهج الرسمية المقررة للمستويات التعليمية ، تعوق غالبا المدرسين عن تنمية القدرات الإبداعية لدى تلاميذهم وطلابهم ، خاصة عندما يشعرون بأنهم ملزمون بإنهاء المادة الدراسية من ألفها إلى يائها . والسلطة التربوية تريد ذلك ، والأولياء لا تهمهم المعرفة كغاية في حدّ ذاتها بقدر ما يهمهم أن ابنهم انتقل أو تحصّل على الشهادة ...وللعلم لا يوجد في الأدب التربوي ما يؤكد أن إكمال تدريس مادة تعليمية ما ، تعني أن التلاميذ قد استوعبوها وامتلكوها وتمثلوها .
ثالثا : تصميم المناهج والكتب الدراسية : تشير الدراسات التقويمية للمناهج في العالم العربي عموما إلى أن المناهج والكتب المدرسية المعتمدة لم تصمّم على أساس تنمية الإبداع .والأدب التربوي في مجال الإبداع يؤكد على الحاجة إلى مناهج تدريسية وبرامج تعليمية هادفة ومصمّمة لتنمية التفكير الإبداعي لدى التلاميذ
برامجنا غالبا ما تخلو من فرص التجريب العلمي والرياضي والأدبي والفني وحتى إن وجدت يتخلّى عنها المدرس ويتجاهلها ، وإن قام بها يتولاّها بنفسه كنشاطات مخبرية أو يعوّضها برسوم ومخطّطات على السبورة.
رابعا : النظرة إلى الإبداع : يعتقد بعض المدرسين خطأً أن القدرات الإبداعية لدى التلاميذ والطلاب موروثة ومحصورة في عائلات معيّنة دون غيرها ، وأن بيئة التعلّم أثرها قليل ومحدودٌ في تنمية القدرات الإبداعية .ويرى البعض الآخر أن الموهبة تكفي دون تدريب للإبداع .كذلك هناك عدد كبير من المدرسين ، وبخاصة ذوي الاتجاهات السلبية نحْو الإبداع لا يعرفون أساليب الأداء الفعّال في التدريس ولا الطرق التربوية المساعدة على اكتشاف المواهب وتنميتها ، ويسكنهم الخمول إلى درجة أن معارفهم وطرائقهم التي استهلّوا بها حياتهم المهنية تتآكل سنة بعد أخرى .ركنوا إلى مقولة : " ليس في الإمكان أبدع ممّا كان "
خامسا : عوامل أخرى محبطة للإبداع :
1 ـ التدريس الموجه فقط للنجاح والتحصيل المعرفي المبني على الحفظ والاستظهار .
2 ـ الاختبارات المدرسية وأوجه الضعف فيها .
3 ـ النظرة المعادية للتساؤل وروح البحث والاكتشاف لدى التلميذ ، واللذان غالبا ما يُقابلان بالعقاب والقسوة من المدرسين .
4 ـ الفلسفة التربوية السائدة في المجتمع ونظرته ومدى تقديره للمبدعين .
سادسا : اعتبارات أخرى : أغلب المدرسين يغفلون أو يتجاهلون أن أغلب التلاميذ والطلاب على اختلاف أعمارهم وعروقهم مبدعون إلى حدّ ما ، بمعنى أن قدرات التفكير الإبداعي موجودة عندهم جميعا مهما اختلفت أعمارهم وعروقهم وأجناسهم .كما أنهم متفاوتون في القدرات الإبداعية (10)، بمعنى أن الفروق الموجودة بينهم هي فروق في الدرجة لا في النوع ، أو هي فروقٌ كمية لا كيفيةٌ .كما أن للبيئة أهمية كبيرة في تنمية الإبداع والتفكير الإبداعي ، من خلال تأثيرها على الصحة العقلية والقدرات الإبداعية للمتعلم .فالمتعلمون يتعلمون بدرجة كبيرة وفاعلية في البيئات التي تهيئ شروط تنمية الإبداع ، فقد تتوفر عند المتعلم القدرات الإبداعية التي تمكّنه من الإبداع ، إلاّ أن البيئة ( البيت ، المدرسة ، مجموعة الرفاق ، المجتمع بتركيبته المتنوعة ومؤسساته المختلفة ) قد لا تتوفر فيها التربة الصالحة للإنتاج الإبداعي الخلاّق.
المنهاج متطور ّ .. ولكن ... !
قد تكون البرامج والمناهج التعليمية متطورة ، ووُضعت من قبل اختصاصيين في مستوى عال من التأهيل والتخصّص لكنها وُضِعتْ بين يدي المدرس الغير الكفء والمدير العاجز عن استيعابها وتبليغها ، والغير المتحمس لها حتى يتابعها ميدانيا ، فإن هذه المناهج والطرائق والأساليب البيداغوجية لن تتحقق غاياتها المنتظرة .
لنُلقِ نظرة على ملمح التلميذ الجزائري المنتظر من خلال المناهج الجديدة المتأتية من الإصلاح التربوي الذي دخل حيز التطبيق بداية من الموسم الدراسي : 2003/2004 بدءا بالسنة الأولى من التعليم الابتدائي من جهة والسنة الأولى من التعليم المتوسط من جهة أخرى .ويتواصل في الموسم الدراسي المقبل في السنة الثانية من التعليم الابتدائي والسنة الثانية من التعليم المتوسط .
جاء في كتاب مناهج السنة الثانية من التعليم الابتدائي الصادر في شهر ديسمبر سنة 2003 عن وزارة التربية الوطنية ، في الصفحة السادسة تحت عنوان " ملمح التخرّج من التعليم القاعدي " والمقصود بهذا المصطلح ـ مرحلة التعليم الابتدائي . جاء ما يلي :
تهدف التربية القاعدية أو( الأساسية ) الإجبارية إلى تنمية شاملة للمتعلم ، في المجال الوجداني ، والمجال الحسّي الحركي ، والمعرفي ، ومعنى ذلك أنه ينبغي أولاً استهداف ازدهار الشخصية ، بحيث يتمّ التأكيد على إيقاظ :
ـ الفضول ، التساؤل ، الاكتشاف .
ـ الرغبة في الاتصال بين الأفراد .
ـ الرغبة في التفتح على المحيط .
ـ حبّ العلم ، والتقنية والتكنولوجيا ، والفنون .
ـ الإحساس والشعور الجمالي .
ـ روح الإبداع والفكر الخلاّق .
ـ روح الاستقلالية والمسؤولية .
ـ الشعور بالانتماء إلى المجتمع .
ـ الشعور بالهوية الثقافية من خلال كل تركيباتها .
ـ الثقة بالنفس ، وفي تنمية الشخصية .
ـ تنمية الضمير الأخلاقي والمدني والديني .
ـ تنمية روح المُواطنة والقيم السامية للعمل .
للمدرسة القاعدية ( الأساسية ) وظيفة رئيسية هامّة في إيصال المعارف الأساسية ، وهي أيضا الفضاء المميّز لتعلّم الحياة الجماعية والاندماج وسط المجتمع .
غايات سامية تنطوي على قيم رفيعة وأساليب في تفتح المتعلم على محيطه ، والدفع به إلى التقصّي والبحث والاكتشاف ، وتنمية مهارات الإبداع والفكر الخلاّق .
السؤال الجدير بالطرح : هل نملك المدرس الذي بإمكانه تفهّم هذا المنهاج العصري والإيمان بجدواه ، والاستعداد الصادق لإنجازه ؟ وهل مؤسسات المجتمع لها استعداد لاستقبال مئات التلاميذ والطلاب يومي لزيارتها والتعرف على أعمالها ووظائفها اكتشافا للمحيط ؟ وهل الإداريون والمشرفون على قطاع التربية قادرون على تجنيد الجميع من أجل الوصول إلى تلكم الغايات ؟ وهل الدولة مستعدّة لضخّ الأموال للتعليم الابتدائي من أجل توفير ما يلزم من وسائل مادية وتكنولوجية متطورة تماشيا مع المعارف الحديثة وتقنيات الاتصال ، واحتضان هذه المدارس اليتيمة التي تسعى بلديات الوطن إلى التخلّي عنها والتنصّل من مسؤولياتها تجاهها ، ووزارة التربية تأبى إضافتها إليها ماديا لكثرة عددها ، على غرار مؤسسات التعليم والمتوسط والثانوي ؟ وهل ....؟ وهل ....؟ أسئلة مطروحة منذ السنوات الأولى للاستقلال .ولا أخالنا واجدين لها إجابات في القريب المنظور .
..ويبقى في ثنايا هذه الأسئلة سؤال يطلّ باحتشام : كيف ننمّي الإبداع لدى فلذات أكبادنا ؟ ومتى ؟
وبعـــــــد :
إن الطفولة أينما كانت لا يمكن لها أن تزدهر وأن تتطوّر إبداعيا خارج فضاءاتها التربوية السليمة . فالمجتمع بمكوّناته يتحمّل مسؤولية التنشئة .فضياع المواهب المبدعة تتحمّلها عملية التربية المتعاقبة التي تجبر الفرد على تشرّب وقَبول مفاهيم وتصوّرات وآراء اجتماعية تقف كمعامل مضادٍّ للإبداع .إن التخلف له آليات قسرية تنبع من خلال أساليب التنشئة والتربية والتكوين والإعلام ، وسلطة العائلة ، وسلطة المدرسة التي تشترك جميعها كحلقة تخلّفٍ تعمل على إخماد جذوة الإبداع .
إن الإبداع لا يتكوّن من تلقين المعارف التي هي عطاءٌ مشتركٌ ، وإنما يتأتى الإبداع من اكتشافه أولا في مرحلة الطفولة المبكرة ، ثم العمل على تنميته وفق طرق علمية وتشجيع أصحابه وتوفير الشروط المساعدة على جعله إبداعا يرقى بأصحابه فكريا من جهة ، وبالمجتمع فيما بعد من جهة أخرى ..بكل أسف إدراكنا لهذه لا زال غائبا ، طالما نغمط المبدعين حقهم في التقدير والاعتراف بهم ..
الهوامش :
(1) ـ نيفين صالح : بالخطوط والألوان طفل ذكي وفنان ـ موقع إسلام أون لاين .
(2) ـ مرجع سابق .
(3) ـ د.عبد العالي الجسماني : سيكولوجية الإبداع في الحياة .الدار العربية للعلوم.ط2
(4) ـ د .يوسف مراد : علم النفس العام .دار المعارف ، مصر .
(5) ـ د.يسري مصطفى : الإبداع في العملية التربوية .كلية التربية ، جامعة الإمارات العربية المتحدة .
(6)ـ المرجع السابق .
(7) ـ عكاشة عبد المنان الطيبي : فن تنشئة الأطفال .دار الجيل / بيروت .
(8) ـ د .شريف حتاته . عن القهر والإبداع ، مجلة فصول .يوليو 1992 مصر.
(9)ـ سعيد مضية : التربية أداة التحوّل الاجتماعي .
( 10) د .يسري مصطفى السيد . مرجع سابق .
مواقع النشر (المفضلة)