تزايد الاهتمام فى العقدين الأخيرين من القرن العشرين بجودة التعليم، ومن المتوقع أن يزداد هذا الاهتمام فى المستقبل نظرا للشكوى العالمية من انخفاض مستواها، وتشير تقارير اليونسكو إلى أن الدول المتقدمة أكثر شكوى من الدول النامية، وفى مصر فإن انخفاض مستوى الجودة يعود إلى تدنى مستوى المنهج التعليمى، وغياب ثقافة الجودة بالتعليم العالى، حيث لم يكن عنصر الجودة هدفا معلنا فى سياسة الجامعة- أى جامعة- بالإضافة إلى ضعف تكوين الأستاذ الجامعى وتراجع الاتصال الجيد بين المؤسسات التعليمية والمجتمع.
لقد ساهمت الحضارات الإنسانية فى تحسين جودة حياة المجتمع والأفراد على حد سواء، وكانت تلك الإسهامات عبارة عن عمليات تدقيق مستمرة فى حسن أداء الأعمال التقليدية اليومية من زراعة ورى، بالإضافة إلى العناية بالأعمال اليومية. حيث قادت هذه الجهود إلى تطوير مستمر عبر العقود والأجيال تناقلته الحضارات تلو الأخرى، وعلى الرغم من عدم وجود مصطلح الجودة، أو الجودة الشاملة سابقا فإن حياة الناس كانت مرتبطة بتحسين الأعمال وتقديمها بشكل أفضل. وهنا أسوق مثلا مهما فى تاريخ التعليم بمصر عندما شرع محمد على فى أوائل القرن التاسع عشر فى تحديث مصر عسكريا، فأمر بإرسال تلك البعثات المهمة فى تاريخ مصر الحديثة التى أحدثت نهضة مصر الحديثة، واستكملت الجامعات بناءها العلمى والمؤسسى من خلال الاستعانة بالأساتذة الأجانب، بالإضافة للبعثات إلى أوروبا ونتج عنها رجال استطاعوا أن ينهضوا بالجامعة المصرية أمثال على مصطفى مشرفة، ومحمد ولى الدين، وأحمد زكى، وطه حسين، وأحمد مصطفى، وعلى إبراهيم، ورياض ترك، وعطية عاشور وغيرهم من أساطين العلم والطب والرياضيات المصريين الذين عملوا بإتقان وحيوية ونشاط، ولم يكن هدفهم فى ذلك الوقت أن يحصلوا على المقابل المادى، ولكنهم عملوا بدافع وطنى وغيرة على بلدهم، وبالرغم من أنهم كانوا يعملون ومصر تحت الاحتلال الإنجليزى فقد برعوا وجعلوا التعليم فى مصر متوافقا مع التعليم فى دول أوروبا، وعلى وجه الخصوص إنجلترا التى كانت فى ذلك الوقت تشهد نهضة علمية واعدة، ما أتاح للشهادة المصرية «البكالوريوس» أن تعادل بشهادات جامعات عالمية مثل جامعة لندن وامبريال كوليج، وذاعت على مستوى العالم أسماء علماء مصريين تفوقوا فى العلوم وكُتبت أسماؤهم بحروف من نور فى مراجع الغرب.. كل هؤلاء لم تكن هناك أمامهم معايير للجودة أو مؤشرات يعملون من خلالها، ولكنهم عملوا بوازع من ضمائرهم وحبهم لوطنهم.
واليوم، وفى سياق متصل بالتعليم وجودته، فإن المفكر البرازيلى «باولو فرايرى» صاحب واحد من أشهر الكتب التى تناولت التعليم وطريقته المثلى، وهو «تعليم المقهورين»، يرى أن هناك نوعين من التعليم: التعليم البنكى، والتعليم الحوارى، أما عن التعليم البنكى فهو ذلك الذى يقوم على التلقين والتنميط والحفظ، ولا يفتح مجالا للعقل ومواجهة الواقع، وهو ما ينتج جيلا منسحبا من ذاته ومفصولا عنها أيضا، مما يفقد المؤسسات التعليمية القدرة على التأثير الفعال فى عقول أبنائها، أو تشكيل فكر نقدى لديهم يحميهم من الفكر الواحد والاستسلام لواقعهم، وللأسف هذا هو واقع الحال فى تعليمنا الحالى، أما التعليم الحوارى فهو الذى يستنهض كوامن النفس ويؤجج فى الطالب القدرة على المشاركة فيما يتعلمه، وتصبح بالتالى المعلومة مشتركة بين الطالب والمدرس، وهنا يصبح الطالب هو منتج المعرفة، وليس مستهلكا لها، ويؤدى هذا إلى تفتح عقله ومواهبه، وهنا يمتلك الشجاعة على النقد والبحث والإبداع.
لقد زاد عدد الجامعات فى مصر وزاد الخبراء فى شتى المجالات، وللأسف الشديد لم تتح الفرصة للاستمرار والتقدم فى العلم، وبالرغم من أننا بدأنا نهضتنا العلمية مع دول سبقتنا فقد تذيلناها علميا وإننى لا أريد أن أبكى على ما فاتنا، ولكن كيف نخرج اليوم من العثرة فى التعليم أولاً؟ وكيف نجعل للجودة مكانا فى حياتنا لكل الشعب، كل فى مكانه وعمله، فى الشارع والمنتدى، فى المدرسة والجامعة، فى المصنع والمزرعة، فى الوزارة والبرلمان، وكيف يمكن أن تطبق معايير الجودة فى أعمالنا وتصبح ليست فقط غاية ولكن أسلوب حياة.
كتبه: د. حامد عبدالرحيم عيد - الأستاذ بعلوم القاهرة ... للمزيد إضغط هنا
مواقع النشر (المفضلة)