( بهاء الوجوه ) للشاعر : محمد رشديالنص :
قراءة نقدية د. علاء البربري
====
بهاءُ الوجوهِ
- 0 -
" سِنِفْـرُو "
قريباً وجدتُكَ
لا يعتريكَ الضَّجرْ
كنتَ تبحثُ عن تاجِهَا
فى ظلامِ البحيرةِ
والشاديَاتُ توقَّفنَ عن شدوهنَّ
وتجديفهنَّ .......................
....................................
....................................
ولولا انحسارُ مياهِ البحيرةِ
ما عادَ تاجُ الجميلهْ ...
===============
* أسطورة مصرية قديمة .
- 1 -
تعالَ ..
وقمْ .. واسترحْ فوقَ صدرِى
وشيئاً فشيئاً
سينفكُّ عقدُ لسانِكَ - بَوحاً -
فهَا همْ يقولونَ :
إنَّ الورودَ تنامتْ
على قبرِكَ المستريحِ
وإنَّكَ تعجزُ عنْ شمِّ باقاتهمْ
ونسَوا أنَّ أنفكَ
تسبحُ فى عطرِ أرضِ الوطنْ ..
- 2 –
بَعِـيداً عن الشَّوقِ
عنْ لهفةٍ للتلاقِى
بأترابِكَ القدماءِ
تَجَرَّعْ قليلاً من الذكرياتِ
تناسَ زمانَ الشهيدِ الجميلِ قليلاً
فإنِّى .. مباهٍ بِكَ الأزمنَةْ ..
- 3 –
حَكَايَاكَ لا زلتُ أذكرُهَا
لحظاتُ النجاحِ
ووقتُ انكسارِ السلاح ِ
وما بينَ مدٍّ وجزرٍ
ليالٍ طويلهْ ..
- 4 –
ظللتَ تجاهدُ تحتَ لهيبِ النفوسِ
وشهوةِ عينٍ تراقبُ ثأراً
ويومَ دعتكَ إليهَا - وقد ألقمتكَ حليباً نقيَّاً -
تقلَّدتَ خوذةَ أجدادِك العـظماءِ
وقبلَ الرحيلِ
نقشتَ على حائطِ التضحياتِ
" ومنْ لا يحبّ صعودَ الجبالِ
يَعـِشْ ..
أبدَ الدهرِ بينَ الـ ...... " ـــــ
- 5 –
تقرَّبتَ تسملُ عينَ اللئامِ
تعقَبتهمْ للجحورِ وعدتَ ..
وبينَ يديكَ بيارقُ منْ وَهَجٍ
كدتَ تغـرسُهَا
فوقَ خدِّ الوطنْ
ودماؤكَ تصبغُ
كلَّ رمالِ الجميلةِ حبَّاً ..
وتصعـدْ ...
- 6 –
" ورحتُ أخطُّ كطفلٍ صغيرٍ "
ملامحَ " حسناءَ "
بعـدَ صعودِكَ أعلَى
فراحتْ تلاحقُنِى
باللحاظِ البريئةِ
تسألُ عنْ والدٍ لمْ يَعُـدْ ..
" ويَا ليتَ حسناءَ تعـرفُ ..
أنَّ أبـَاهَا صَعَـدْ .. "
الرؤية النقدية :
=========
من يعرف الشاعر محمد رشدي عن قرب يلمس الدفء الإنساني ، وطاقة الشباب التي لا تنضب ، فهو شاب منفتح على الحياة ، يدفعه النشاط والجدية لطرق كل الأبواب التي يلج من خلالها للتفوق والتقدم ، على مستوى العمل الحكومي ، وعلى مستوى الإبداع الأدبي ، إنه شاب يبهرك بنشاطه وحبه للعمل ، وهذا الشَّاب رغم حداثة سنه استحق بجدارة أن يكون رئيسا لنادي أدب سمالوط – محافظة المنيا ، فاستطاع أن يغير من نظرتنا لأندية الأدب ، التي أعتدنا أن نرى كبار السن بفكرهم القديم هم من يستحوذون عليها ، فيعطلون مسيرة الإبداع من خلال اعتناقهم للبيروقراطية المتعفنة ،ومن هنا ندعو الشباب للمشاركة الجادة في هذه المناصب لتغيير خريطة الثقافة في مصر والتي عانينا منها طويلا ، من تهميشها للشباب ، والاعتماد على الشللية ، والتعصب لأفكار وسياسات وأيديولوجيات بعينها .
وقد بدأ الشَّاعر نصه ، بتوظيف الأسطورة المصريَّة القديمة التي مفادها أن الملك ( سنفرو ) كان يتنزه على سطح بحيرة مع إحدى محظياته ، سقطت منها قطعة مجوهراتها فبكت ورقَّ قلب الملك لها ، واستدعى كاهن مصري وقرأ مجموعة من تعاويذ سحرية فانشقت مياه البحيرة ، وحضر الحراس الذين ساروا في وسط البحيرة ، وأحضروا قطعة المجوهرات ." والسياق هنا يستدعي قصة موسى مع فرعون وكيف انشق له البحر ، وغم أنَّ هذا الزمن أسبق من زمن قصة موسى بقرون .
ولا يخفى على القارئ كيف شحنت هذه الأسطورة النص بطاقة رمزية هائلة ...وللقارئ – أيضا - أن يفك رموز هذه الأسطورة ، فيكتشف أنَّ الجميلة - هنا – هي الوطن الذي يبحث عن الحرية ، ( التاج ) ، فهذا التاج ما هو إلا الحرية المفتقدة ، والعاشق / الملك ( سنفرو ) هو الشَّاعر ذاته / المواطن المصري / الثوار ، وأنَّ الكاهن - هنا – هو الثورة ، التي ستقود للتغيير ، وتجعل المواطن يمتلك تلك الحرية المفتقدة .
وكان توظيف هذه الأسطورة توظيفًا موفقًا لحدٍّ بعيد حيث الطاقة الرمزية التي تحظى بها الأسطورة، والتي أبعدت الشاعر عن المباشرة في عرض رؤيته ، ويحمد للشاعر أن اعتمد في توظيفه على التراث المصري القديم ، والذي يكشف عن عمق انتمائه للوطن ، على عكس ما انتشر عند شعراء الحداثة من توظيف للأساطير الغربية واليونانية ، فكأنه يخلع جلده ويستبدله بجلد مستعار ، وهذا أحد ملمح التغريب التي انتهجها البعض ، وكأنهم يشكون من فقر تراثنا .
ومن أبرز المحاور التي تتناولها القصيدة ، وتتبناها ، هي استشراف المستقبل ، والتنبؤ بالثورة المصرية – قبل قيامها – كيف لا والشاعر هو نبي أمته ، وهنا نتذكر أمل دنقل ، وكيف تنبأ بالنكسة في عام 1967م قبل حدوثها ، في قصيدته : ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) ، وكيف كانت هذه القصيدة حديث الناس في عصرها ، وكما فعل أمل دنقل في التخفي وراء الرمز الشعري ، في قصيدته حيث وظَّفَ الأسطورة العربية القديمة ، أسطورة زرقاء اليمامة ، هكذا فعل رشدي في نصه ، حيث جاء متخفيا في ثياب سنفرو ، وهذا ما انتهجته في قصيدتي : ( وتحكي شهر زاد ) التي كتبتها في عام 1997م ، وبشرت فيها بثورة مصرية ، وهكذا كان يفعل الشعراء في التخفي والمراوغة ، خلف الرموز ، خوفا من أنياب السلطة ، التي كانت لا تتورع من اعتقال كل من يحرك شفتيه ، ولم يكن أسهل عليهم من فتح أبواب المعتقلات لكل من ينادي بالحرية أو يدعو لها ، والتهم كانت جاهزة وهي : ( محاولة قلب نظام الحكم ) أو المشاركة في ( أعمال خارجة على القانون ) أو ( الإفساد وإخلال الأمن العام ) ، وهذا كان الحالُ قبل قيام الثورة حيث كانت الكلمة مطاردة ... والأفواه كانت مكممة ..وهذا كان أحد الأسباب التي قامت من أجلها الثورة ...حيث طمح الأدباء في الحصول على مساحة من الحرية .. يبدعون فيها دون خوف من أنياب السلطة وأظافرها القاسية .
وعن البناء الشكلي للقصيدة .. فقد تخيَّر الشاعر نظام المقاطع .. ويعطي لكل مقطع رقم بعينه ، وهذه إحدى التكنيكات الفنية التي يقوم عليها نظام القصيدة لدي بعض شعراء الحداثة ، فكل مقطع يتناول فكرة بعينها ... ثم يخرج منها إلى الفكرة التي تليها ... على أن يكون هناك خيطاً فكرياً وشعورياً بعينه يضم جميع فقرات القصيدة داخل إطار واحد ، وقد أسس الشاعر لقصيدته .. بأسطورة التاج والبحيرة ، وما رمز من خلاله لحاجة مصر إلى الثورة – كما سبق ذكره – وكانت هذه النبؤة هي الأساس الذي عليه قام النص . وقد اعتمد الشاعر على الديالوج الداخلي ، ومخاطبة الذات الشاعرة أو الذات الجمعية في التحريض على الثورة والتبشير بها :
تعالَ ..
وقمْ .. واسترحْ فوقَ صدري
وشيئاً فشيئاً
سينفكُّ عقدُ لسانِكَ - بَوحاً -
إنَّ الشاعر هنا يحرِّض مبدئياً على الثورة ، من خلال مغادرة حالة الصمت التي كان يعيشها الوطن ،والسكوت على الفساد الذي استشرى في كل أرجاء الوطن ، والبوح يعدُّ الخطوة الأولى للخروج من السلبية التي كان تستشري بيننا وتسود الأوساط الثقافية والاجتماعية .
ويشير الشاعر لعمق انتمائه للوطن بكل تفاصيلة :
ونسَوا أنَّ أنفكَ
تسبحُ فى عطرِ أرضِ الوطنْ ..
تشير هذه الصورة إلى تجذُّر حب الوطن في الذات الشاعرة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوطن وتحن لترابه وتنتمى إليه كلياً ، بكل حواسها ، حتى أنه يتشمم عبقاً في ترابه ، وهنا تشارك حاسة الشمّ بقيمتها الكبيرة في التدليل على مدي الانتماء لهذا الوطن .
ويقول الشاعر في المقطع الرابع ، الذي يعد من أروع مقاطع القصيدة :
ظللتَ تجاهدُ تحتَ لهيبِ النفوسِ
وشهوةِ عينٍ تراقبُ ثأراً
ويومَ دعتكَ إليهَا - وقد ألقمتكَ حليباً نقيَّاً -
تقلَّدتَ خوذةَ أجدادِك العـظماءِ
وقبلَ الرحيلِ
نقشتَ على حائطِ التضحياتِ
" ومنْ لا يحبّ صعودَ الجبالِ
يَعـِشْ ..
أبدَ الدهرِ بينَ الـ ...... " .
إن الشاعر في هذا المقطع يخاطب رمزاً للنضال ، قد يكون هو الذات الشاعرة، أو أي مناضل ، والذي يعنينا هو الرسالة الشعرية التي تبثها الذات في فعلها التحريضي للثورة ، فبعد أن دعا أولاً للخروج من حالة الصمت ، والبدء في البوح والمكاشفة ، كانت الخطوة التالية والأهم وهي ( الفعل الثوري ) والنضال من أجل تحرير الوطن من الفساد ، وهنا يتذكر الشاعر الواجب المحتم على الذات / المناضل برد الفضل للوطن / الأم التي دعته ليحررها ( وقد ألقمتكَ حليباً نقيَّاً ) ، وفي التراث الشعبي يقال عن كل مناضل وبطل حقيقي أنه ( شبع من لبن أمه ) وها هو الشاعر يوظف هذه المقولة للتدليل على البطولة والوفاء للوطن ، ويتناص الشاعر – أيضاً – مع قول أبي القاسم الشابي :
ومن لا يحب صعودَ الجبال يعيش أبدَ الدَّهر بينَ الحفرْ
وهذا التَّناص ،يوظفه الشاعر في شحن نصه بالرغبة في التغيير بما لهذا البيت من قيمة وتأثير كبير في واقعنا ، ومثل هذا التوظيف يضيف كثيرًا للنص ، بما له من مرجعيَّة في نفس المتلقي ، خاصة وأنَّ توظيفه جاء مبررًا بحاجة النص له ، ومن ثمَّ لم يبدُ التَّناص غريباً في نسيج القصيدة ، بل انسجم مع النص وكأنه جزء طبيعي من نسيجه ، وهذا يدل على قدرة الشاعر الفنية ، ويبرهن على مقدرته على تعاطي التراث والحوار معه ، ومن شأن هذا التَّناص أن يقيم خيوطا ًتربط بين واقعنا وتراثنا ، بشرط أن يكون النص بحاجة ماسة لهذا التناص ، حتى لا يبدو غريبا على النص الأصلي ، ويضعف النص بدلاً من أن يضف إليه.
وفي المقطع الخامس يبشر الشاعر بالثورة والثأر من اللئام ، الذين سلبوا الوطن حريته :
تقرَّبتَ تسملُ عينَ اللئامِ
تعقَبتهمْ للجحورِ وعدتَ ..
وبينَ يديكَ بيارقُ منْ وَهَجٍ
كدتَ تغـرسُهَا
فوقَ خدِّ الوطنْ
ودماؤكَ تصبغُ
كلَّ رمالِ الجميلةِ حبَّاً ..
وتصعـدْ ...
ولكن الحرية لم تكن مجانية ، بل كانت دماء الشهيد ، هي الثمن الذي دفعه الشهيد حتى يحرِّر الوطن ويثأر له من مغتصبي حريته.
ويأتي المقطع الأخير، ليحمل لنا المفاجأة وهي موت الشهيد / المناضل / الثوري / الذات ، ليؤكد لنا أن الحرية لن تكون هبة ، يمنحها لنا القدرُ ، بل علينا أن ندفع الثمن من أرواحنا ودمائنا ،ولن يتم تحقيق أمنياتنا بمجرد الأحلام ولكن لابد من دفع الفاتورة مقدماً ، للحصول على الحرية .
ويلجأ الشاعر للمفارقة بين الموت والحياة ، موت المناضل / الأب ، وحياة الابنة ( حسناء ) / الأمل / المستقبل ، لقد دفع الأب حياته ؛ ليضمن حياة كريمة لابنته / الجيل القادم .
وفي النهاية لابد من تسجيل إعجابنا بهذا النص ، الذي يعدُّ وثيقة تاريخية للتبشير بالثورة والدعوة لها ، والذي ورد ضمن مجموعته الشعرية الأولى ( لا شيء يبقى ) والتي يدل عنوانها على استحالة البقاء على حالٍ ، وضرورة التغيير ، الذي هو طبيعة الحياة ، ومن هنا نرى أنَّ عنوان المجموعة الشعرية ، يكون هو العتبة الأولى التي يصعد عليها القارئ للوصول إلى رؤية الشاعر وفلسفته في الحياة ، وكذلك عنونة القصيدة التي هي بمثابة الرأس من الجسد ، والتي يفترض فيها أن تكون إحدى الدوال على مضمون القصيدة ، ونحن نهنئ الشاعر على نصه وعلى مجموعته الأولى ، وننتظر أعمالاً قادمة تضيف للمكتبة العربية ، إنتاجاً هادفاً وراقياً ، كما لمسنا ذلك في مجموعته الأولى .
* * * * *
مواقع النشر (المفضلة)