هناك خيط رفيع يفصل بين الأمن الفكري والحجر الفكري .

كيف يمكن تحقيق الأمن الفكري دون الحجر على حق الناس في التفكير ، ومناقشة الأفكار والرؤى والعقائد وتمحيصها ؟

كيف يمكن تحقيق التفاعل الفكري والاستفادة مما عند الآخرين ، دون الوقوع في مأزق التبعية ، والاستلاب الحضاري ؟ كيف يمكن المحافظة على الخصوصية الثقافية والفكرية ، دون الوقوع في فخ التقوقع والانعزالية ؟

إبتداء ، لابد من الإقرار أن الهوية الفكرية ، والخصوصية الثقافية ، مسألة حتمية ، ومسلمة لا يمكن مناقشتها ، أو إعادة النظر فيها ، بغض النظر عن الكلام الطويل ، والجدل الدائر حول العولمة ، ومفهوم القرية الكونية . إن الكلام عن موت الأيدولوجيا ، ونهاية التاريخ ، قضية لا تصمد أمام النقد الموضوعي . سيظل العالم (مؤدلجا) ، وستبقي الثقافات والحضارات ، بأبعادها التاريخية ، وأفعالها المكتسبة ، هي المحرك الرئيس لسياسات الأمم والشعوب .

إن الدين كمنظومة فكرية ، يبقى مغروسا في عمق الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب، مهما ضعف إرتباط الناس به من حيث السلوك والممارسة . إننا يمكن أن نقول ، بل ونتكلم عن (أوروبا المسيحية) ، و (الشرق الكونفوشي) ، دون أدنى حرج . إن (علمانية) أوروبا لم تلغي وجهها ولا هويتها المسيحية . كما أن (ماركسية ماو) ، لم تحل محل العقائد الكونفوشوسية في الصين . إن ماكس فيبر ،عالم الاجتماع المشهور مثلا ، يعزو تقدم أوروبا للقيم المسيحية ، كما أن كثيرا من الباحثين يعزو التقدم الحاصل في دول شرق، وجنوب شرق آسيا ، إلى تعاليم بوذا وكونفشيوس .

إن الاستلاب الحضاري لا يولد تبعية فقط . إنه يبذر جرثومة الصراع الاجتماعي العنيف ، الذي يقسم المجتمع إلى تيارات متناحره ، تقود في النهاية إلى تقاتل ، وتشرذم ، وتمزيق ، للكيانات السياسية والبنى الاجتماعية .

يجزم شيلر ، أحد أبرز الباحثين في قضايا التنمية والثقافة ، بأن سبب تخلف معظم البلدان، التي تقع في تصنيف (العالم الثالث) ، جاء بسبب إصطدام خططها ومشاريعها التنموية ، مع مسار منظومتها الفكرية ، ونظامها القيمي . يقول شيلر : لا يمكن أن أعلم الناس سلوكا ، مهما كان (حضاريا ومتقدما) في الغرب ، لأناس ، يعتقدون أن ثقافتهم تعتبره لا أخلاقي ، أو إذا كانوا يعتقدون أنه سيهدد بعض عناصر ثقافتهـم . يضرب شيلر مثالا بالسياحة فيقول : إن السياحة شئ جيد وذات مردود اقتصادي ، لكن السياحة بالمفهوم الغربي ،هي (بيع) ، وإبتذال للخصوصية الثقافية ، من أجل إمتاع الانسان الأبيض . وضرب مثلا بإحدى دول الشمال الأفريقي ، التي تم تحويل الثقافة المحلية فيها إلى كرنفالات للرقص ، لإدخال البهجة على السائح الغربي .

لقد كانت دراسات دانيال ليرنر ، عن التنمية والاتصال ، مثالا صارخا على فشل السياسات التنموية ، بكل أبعادها الثقافية ، والاجتماعية ، والاقتصاديـة ، في كثير من دول العالم الثالث . إن نتائج تلك السياسات كانت كارثية على النظم الاجتماعية والاخلاقية لتلك الدول ، لأنها خلقت توترات داخل فئات المجتمع ، فارتفعت نسبة الجريمة وأزداد الانشقاق الاجتماعي ، بسبب الاغتراب الثقافي ، وتكرست الطبقية ، ونشأ ت تيارات العنف السياسي والديني .

على ضوء ما سبق ، هل يمكن أن نعرف الأمن الفكري بأنه الانسجام بين ما نؤمن به ، وما نتطلع إليه ؟ قبل الاجابة بنعم على هذا التساؤل ، لابد من الاتفاق على مصطلحات معينة مثل :

· الغزو الفكري .. هل هناك شئ إسمه الغزو الفكري ، وما هي طبيعته ؟

· هل التقنية محايده ؟ هل التقنية آله ، أم مفاهيم ، وطريقة تفكير ؟ وما علاقة ذلك كله بالخصوصية الثقافية ، والشخصية الحضارية ... والأمن الفكري ؟

· ما هي التنمية ، وما هي عناصرها ؟ هل المدنيه ، والنتاج المادي للبشرية ، مثل وسائـل الاتصال والمواصلات الحديثة ، والمخترعات العصرية ، هى التنمية ، وهل تحقـق وحدهـا تقدما للإنسان .. أو تحقق تنمية بالمفهوم السائد .. ؟

· ما هو الفرق بين التحديث والعصرنه وبين التغريب ؟ هل يمكن تحديث المجتمع دون تغريبه ؟ هل يحقق التحديث تنمية متوازنه ؟ ... بل ما هي التنمية المتوازنه ؟ .

· أين يقع الانسان في التنمية المتوازنه ، وكيف يمكن تحقيق مقولة : "تنمية الانسان أولا" ، دون الوقوع في مأزق التبعية ، واختراق ثقافة الآخر للخصوصية الثقافية ..؟

هذه التساؤلات ، وكثير غيرها ، تصب في مفهوم الأمن الفكري ، مثلما هي تمثل سؤال التنمية العريض . إن الأفكار المتطرفة لا شكل ، ولا وجهة محدده لها . فالتطرف يمكن أن يكون يمينا أو يسارا . يمكن أن يحمله فرد أو أفراد ، ويمكن أن يصدر من مؤسسات . يمكن أن يكون ممارسة سلطة ، أو سلوك جماهير . يمكن أن يكون على شكل كتاب ، أو مقال ، أو خطبه ، ويمكن أن يقدم في شكل سياسات وقوانين .

الأمن الفكري يتحقق حينما يكون هناك صلح بين ما تؤمن به الجماعة ، وما تطالـب بتأديته . الأمن الفكري يتحقق حينما لا تكون شرعية وجود (أي مجموعة) ، من خلال المنظومة الفكرية والقيميه ، التي تؤمن بها ، مهدده بممارسات مفروضة لا تستطيـع مدافعتها .

الأمن الفكري يتحقق حينما تنسجم السياسات التنموية مع الثوابت ، وحينما لا تكون تلك السياسات التنموية ، بحكم كونها طريقة تفكير ، وأسلوب حياة ، مهددا للشرعية التي يستمد منها الكيان ، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا ، مبرر وجوده .

لذا ، لا يمكن الحديث عن أمة ، أو شعب ، أو نظام سياسي لا يعتمد في شرعيته على (أيدولوجية) ، هي خلاصة النتاج الثقافي للأمة والشعب ، عبر فترات تاريخية متفاوتة، وهي في الوقت نفسه منظومته الفكرية والقيمية ، وموضوع أمنه الفكري .

إن الأمن الفكري مسألة تهم المجتمع مثلما تهم الدولة ، وهي قضية المحكوم كما أنها قضية الحاكم . الأمن الفكري هو إحساس المجتمع أن منظومته الفكرية ونظامه الأخلاقي ، الذي يرتب العلاقات بين أفراده داخل المجتمع ، ليس في موضع تهديد من فكر وافد ، بإحلال لا قبل له برده ، سواء من خلال غزو فكري منظم ، أو سياسات مفروضه .

الحجر الفكري أن تكون غير قادر على مساءلة الآخر ، وتفهم ما لديه ... وأن لا تملك الحق في مناقشة السياسات المفروضة ، سواءا ارتدت عباءة التنمية ، أو تترست بالخصوصية الثقافية.
منقول للمعرفه