تنبهت الصين إلى ضرورة الانفتاح على العالم من حولها عبر تطوير النظام التعليمي، أو ما يطلق عليه الموجة الأولى. وقد قاد هذا الاتجاه مجموعة من المفكرين الصينيين من أبرزهم (وي يوان) الذي دعا إلى الاستفادة من العلوم الغربية المفيدة، وكانت خطة هؤلاء المفكرين مبنية على عدة محاور، أبرزها: ابتعاث الطلاب الصينيين للدراسة في الخارج، وقد وصل أول طالب صيني إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1872. إنشاء مدارس لتعلم اللغات الأجنبية. وافتتاح مراكز وطنية للترجمة للمساهمة في نقل الإنتاج الفكري الغربي.

وبهذا تكون قد بدأت الموجه الثانية لإصلاح التعليم عام 1949م الذي كان مقتصراً في ذلك الحين على طبقة معينة من الشعب، على الرغم أن الحكومة الصينية سنَّت قوانين تنص على حق التعليم لجميع أفراد الشعب، ولكن هذه المحاولة في إصلاح التعليم باءت بالفشل، بسبب عدم التنسيق بين مختلف الجهات ذات العلاقة بالعملية التعليمية. وعدم وضوح سياسة الإصلاح بشكل دقيق.

وكردة فعل لهذا الفشل ظهرت الثورة الثقافية البروليتارية التي تمخض عنها مقاطعة كل شيء غربي، والدعوة إلى انغلاق الصين على نفسها لاعتماد العلوم والتكنولوجيا الوطنية عوضاً عن البحث عنها عند الغرب، حتى إنها جرمت كل من يتعاطى مع الفكر المستورد، وبخاصة الغربي من أو يسوق له. وانتشر اعتقاد متعاظم خلال تلك الفترة بأن الصينيين قادرون على تشكيل العلوم وتطويعها بما يتناسب مع ثقافتهم الوطنية، ويمكنهم تطوير أنفسهم بمعزل عن العالم.

وهذه الثورة الثقافية الإصلاحية أدت بشكل جلي إلى تراجع مستوى التعليم في الصين، وحرمت الكثيرين من الحصول على حقهم في التعليم، فقد انخفضت نسبة الملتحقين بالتعليم من الأطفال بشكل كبير، وانتشرت الأمية في كافة أنحاء البلاد، وبشكل متوازٍ تراجعت الصين اقتصادياً وثقافياً، وفقدت مركزها الاقتصادي. وفي العام 1977م تنبهت الحكومة الصينية للآثار الكارثية لمثل هذا التوجه وما قد يورثه على مستوى المنافسة العالمية، فبادرت إلى تبني رؤية جديدة أكثر وضوحاً مبنية على تعزيز دور الصناعة، والزراعة، والدفاع، والعلوم والتكنولوجيا، والبحث عن العلوم في كل أصقاع العالم.

وأقر الحزب الشيوعي الحاكم قانوناً يحدد سنوات التعليم الإلزامي بتسع سنوات، وبدوره رفع التشريع نسبة أعداد الطلاب الملتحقين بالتعليم الأساسي حتى وصلت إلى 93%، وهذه النسبة بشهادة منظمة اليونسكو عالية جداً إذا ما قورنت بالدول النامية الأخرى.

وفي مرحلة التحديث هذه كان هناك توجه واضح للحكومة الصينية يتمثل في إعادة صياغة المناهج وطرق تدريسها، تدريب المعلمين الذين هم على رأس العمل، إدخال الحاسب الآلي في العملية التعليمية بشكل واسع. وقد كانت الحكومة الصينية واعية لما يعانيه الريف الصيني من تدني معدلات الالتحاق بالمدارس، ولاسيما إذا عرفنا أن ما يزيد على 80% من سكان الصين يعيشون في الريف. وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي واستجابة لهذا الوضع المقلق قامت الحكومة الصينية بإطلاق مشروع (صندوق الأمل) الذي يهدف إلى جمع الأموال اللازمة لمساعدة الفقراء ممن تسربوا من التعليم العام، ومن خلال هذا المشروع تم تقديم منح دراسية طويلة الأجل، وبناء المدارس وترميمها، وشراء الكتب والأدوات المدرسية لأطفال المناطق الفقيرة. وبنهاية عام 1995م استطاع مشروع الأمل جمع 690 مليون يوان مقدماً بذلك مساعدات مالية إلى 1.25 مليون طفل ليكملوا تعليمهم الأساسي، وتمويل بناء أكثر من 2000 مدرسة ابتدائية.

وقد كان هناك تقاسم في تكاليف التعليم العام ما بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، وعلى الرغم من إيجابية هذه السياسة إلا أنها خلقت تبايناً في مستوى جودة التعليم ما بين المناطق المختلفة إلى حد كبير، ويعزى هذا إلى مستويات الدخل المختلف لكل سلطة محلية، ومجموع ما تساهم به في دعم التعليم على الرغم من تساوي الحصص المالية الممنوحة من الحكومة المركزية.

وعلى خط موازٍ قامت الحكومة الصينية بحملات منظمة لمحو الأمية مع تركيز أكبر على النساء، عبر نماذج تقوم على مدارس مؤقتة، أو مدارس قروية للريف الصيني، وكانت تلك المدارس تركز على تعليم القراءة والكتابة، والتدريب على المهارات الزراعية، ثم أضيفت بعض المهارات الجديدة مثل التدريب على تصفيف الشعر، وفن الديكور، ويعد هذا توجهاً جديداً في السياسة التعليمية الصينية، فالحكومة الصينية كانت متحمسة لتعليم المرأة، ففي الماضي، كانت الطالبات لا يسمح لهن بالالتحاق بجامعة بكين حتى عام 1920م، أما في السياسة التعليمية الجديدة فقد غدت فرص تعليم المرأة مساوية لفرص تعليم الرجل في كل المراحل، ونتيجة لهذه الجهود الحثيثة من قبل الحكومة الصينية لنشر التعليم انخفضت نسبة الأمية من 90% إلى 5%.

وطبقت وزارة التربية والتعليم الصينية مناهج تجربة عام 2001م وركزت على تعلم التكنولوجيا المعلوماتية واللغات في بعض المدارس الابتدائية، ومن ثم عممت هذه المناهج عام 2005م في جميع المدارس الابتدائية.

وعلى الرغم من القفزات المميزة للاقتصاد الصيني، وارتفاع مستوى الرفاهية إلا أن الحكومة الصينية غير راضية بشكل تام عن المستوى التعليمي، فقد أعلنت الصين خطة إصلاحية سميت خطة عمل (2003-2007) لتنشيط التعليم «وتقوم هذه الخطة على زيادة الإنفاق الحكومي في مجال التعليم والتنمية البشرية، وإطلاق مجموعة من الحوافز للمعلمين، وإلغاء الرسوم الدراسية عن أطفال الأسر الفقيرة ومن يعيشون في الريف» وقد انعكست هذه الإصلاحات بشكل مذهل في رفع مستوى جودة التعليم العالي.

ومن ناحية أخرى، تحسنت المبالغ المرصودة لقطاع التعليم، حيث بلغت النفقات الحكومية في مجال التعليم (463,76) مليار يوان، (الدولار يساوي 8,26 يوان) وهو ما يساوي 3,19% من إجمالي الناتج المحلي الصيني، وقد وصل عدد المسجلين في التعليم العام 318 مليون تلميذ وتلميذة يتعلمون بالمجان. كل هؤلاء التلاميذ يقعون على عاتق وزارة مركزية واحدة تسمى وزارة التربية والتعليم، يرأسها وزير ويسانده عدة نواب ومساعدين. وهذه الوزارة العملاقة تأخذ على عاتقها إدارة (117) ألف مدرسة حسب إحصائيات عام 2002م. وتذكر جريد الشعب الصينية إحصائيات تبعث على الاحترام حول عدد المعلمين في الصين، إذ ورد فيها «أن إجمالي عدد المعلمين وصل في جميع المدارس إلى (12) مليوناً و 498 ألفاً، بزيادة ثلاثة ملايين و (252) ألفاً عن عام 1985م, بزيادة بلغت 35.2 %. وأضافت الصحيفة أن عدد المعلمين في المدارس العليا وصل إلى (814) ألفاً في عام 2003م، بزيادة بلغت 15 % عن العام الذي قبله, وعدد المعلمين في المدارس الثانوية مليون و (71) ألفاً بزيادة (125) ألفاً, وعدد المعلمين في المدارس المتوسطة ثلاثة ملايين و (467) ألفاً بزيادة 36 ألفاً. أما عدد المعلمين في المدارس الابتدائية فوصل إلى (5) ملايين و (703) آلاف بانخفاض (76) ألفاً عن العام الذي قبله.»

وهذه النجاحات الصينية الخلاقة في مجال التعليم كان يدعمها شعب متعطش للعلم، بدليل عدد الساعات التي يقضيها التلميذ الصيني في المدرسة، التي تبدأ من السادسة والنصف صباحاً إلى الخامسة عصراً، وهذا الشغف نابع عن الثقافة الصينية التي تحترم العلم، ولا تؤمن بأن هناك ذكاء فطرياً، بل إن النجاح مبني على المثابرة فقط.

ويذكر نيكولاس كريستوف: «أن مستوى الرياضيات الذي يُدرَّس حتى في مدارس الفلاحين في القرى الصينية يشبه مستوى الرياضيات في المدارس الممتازة بمنطقة نيويورك حيث يدرس أبنائي. والتلميذ الصيني يقضي وقتاً أطول في المدرسة إذا ما قورن بالتلميذ الأمريكي».

----------------------------------------------------------------------------
المصدر : صحيفة رسالة الجامعة - كلية الاداب جامعة الملك سعود
http://rs.ksu.edu.sa/23264.html