رحلتي مع صناعة الذات بدأت بقصة , سأختمها بقصة , قصة لن أنساها , قصة واقعية حصلت معي فعلاً , قصة تؤجِّج المشاعر في نفسي و أنا أتحدث عنها , عندما أُدير شريط تلك القصة في مخيلتي أشعر و كأنّني سأسقط من فوق هذه المِنصّة , كانت تجربة , دعوني أُحدثكم عنها , عندما كنت في الصف الثاني متوسط , و في شهر رمضان بالتحديد صليت التراويح خلف الإمام كان خاشعاً بِالقدر الذي ملأ المصلين بالخشوع و كنت أحدهم تأثرتُ من دعائه للمسلمين و نصرة المسلمين فخرجتُ و نفسي عَبِقة مُتألِّقة مشاعراً ايجابية و قمت أتساءَل و أنا في هذا العمر كيف أستطيع أن أخدم الدين و كيف أستطيع أن أخدم أمتي , كانت فكرة تعتصرني , فكرة تقتلع عليّ أُنسي و سروري فتحوله إلى حزن وكدر , تلك الفكرة أن الشباب الصغار في عمري يضيِّعون أوقاتهم سدىً بدون أيةِ فائدة وبينما أنا أسير عائد من المسجد إلى البيت , أشاهد مجموعة من رفاقي في عمري يلعبون الكرة و يترامونها و يتراشقونها من خلف الشبكة : يا الله ! هؤلاء ضحية المؤامرة على الأمة الإسلامية , بقيت مشاعري متأججة , كنت أتقلب على فراشي , جاء الصباح فانطلقت إلى المدرسة , أول ما وصلتُ اتجهت إلى الأستاذ عبد الله , الأستاذ المسئول عن النشاط : يا أستاذ لو سمحت أريد أن أُلقي كلمة بعد صلاة الظهر: جميل رائع ! أعطيني الكلمة حتى اقرأها , آآه و الله أنا للأسف ما كتبتُ الكلمة , ما كتبتَ الكلمة ! طيب كيف ستُلقي ؟ , سأُلقي ارتجالاً أنا عندي أفكار و سألقي ارتجالاً , اسمحوا لي أن أقول لكم سر لا تخبروا به أحد , حتى تلك اللحظة لم أكن قد وقفتُ و ألقيتُ في حياتي , و لا مرة , للأسف الأستاذ وافق على طلبي , مضى الوقت بطيئاً , صلّينا الظهر , كنتُ أصلي , كان قلبي يرتجف ارتجافاً , أنا لا أعرف هل هو خشوع في صلاة الظهر , سَلَّم الإمام أردت أن أقف , فشعرتُ أنّ قلبي يزداد ثِقلاً و الثقل يزداد حتى انه يمنعني من الوقوف , قلت في نفسي , و أنا ايش اللي جابني للمشكلة هذي لكن , لا مناص تحاملتُ على خطواتي مشيت تقدمت وقفت أمام الطلاب انظر إليكم و كأني انظر إليهم , كانوا أمامي عدد الصفوف خمسة صفوف , و الأستاذ عبد الله صلى بنا إماماً و يجلس بجواري الأستاذ عبد الله قال لي : إذا أطلتَ سأسحبُ ثوبك : بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ... سورة الفاتحة .. أما بعد : المدرسة كُلها بدأت تضحك , حتى الجدران كانت تضحك , أحد المدرسين كان سمين جداً لم يردني أن انظر إليه و هو يضحك وضع يديه على فمه كنت انظر إلى بطنه يضحك .. المدرسة كلها كانت تضحك , يا الله , اسألني عن أعظم أمنية , سأقول لك , أتمنى أن تنشق الأرض و تبتلعني , اشعر بتنميل في أطرافي , اشعر بأن رُكبي تنتفض , أشعر بأن قلبي ذهب و تَركني , اشعر بأن شخص عَصَر ليمونةً فوق رأسي , أكاد أن أنكمش و أتضاءل كانت تلك هي مشاعري , اسألني عن أيِّ أُمنيةٍ لا أتمنّاها سأُجيبك بكلمة واحدة : لا أتمنى أن يراني أحد لا أتمنى أن يسمعني أحد لا أتمنى أن يشعر بي أحد أتمنى أن اختفي , تقدمتُ بخطوات متثاقلة و الضحكات تنسحبُ شيئاً فشيئاً , كنت أجلس قبل الصلاة و أثناء الصلاة في الصف الثاني , تقدمت حتى وصلتُ إلى الصف الثاني جلستُ في مكاني أنزلتُ رأسي اصطَكّت رأسي برُكبتي كان الجالس عن يميني يضحك و يضربني ضربات بسيطة فأميلُ إلى اليسار فيضحك الجالس عن يساري و يضربني ضربات بسيطة أنقذني صوت المدرس , أحد الأساتذة بدأ يصرف الصفوف حتى يعودوا للحصة بعد الصلاة , الصف الأخير يتحرك الصف الذي يليه يتحرك الصف الثالث يتحرك الصف الثاني يتحرك وصلني الدور , وقفوا جميعاً حتى يغادروا وقفتُ و كبَّرتُ السُّنة , انصرفوا جميعاً , بعد أن انتهيت التفتُّ يمين , التفتُّ يسار لا يوجد أحد الآن اهرب الآن أقف , ذهبت إلى فصلي , يا الله نسيت إذا كنت آخر من يغادر المصلى سأكون آخر من يصل إلى الفصل , كل السخرية تنتظرني داخل الفصل , فتحتُ باب الفصل : قاه قاه قاه قاه , الكُل بدأ يضحك , من نعمة الله عَلي أن طاولتي كانت الطاولة الأولى , سحبت طاولتي و جلست , بدَأت العبارات تتراشق كل منهم يضربُ رأسي بعبارة , أخرجت كتاب و دفنت وجهي فيه , أأبكي ؟ كيف أُعبِّر عن مشاعري ؟ كيف أُفجِّر يأسي ؟ كيف أُحدِّثكم عن إحباطي ؟ تخيلوا تلك الكثافة السلبية العالية التي تكدَّست في نفسي , بينما أنا كذلك , ضربة قوية على الطاولة , رفعتُ رأسي : مدرس اللغة العربية , سحبني من يدي أخرجني, أوقفني أمام الطلاب , الأستاذ إبراهيم كان قاسياً , يمتلك كف لم أذُقها ولكنني رأيتُ من سقط على الأرض لأنَّه ذاقها , يا ساتر أمسكَ بيدي , ماذا يريد , أوقَفَني أمام الطلاب , عاقَبني لوحدي , تفاجئتُ بأن يده التي كانت تمسكُ بيدي كانت ترسلُ لي مشاعرَ المحبة مشاعر مُفعمة بالحميمية , رفعَ يدي عالياً : أحسنتَ يا مريد , أحسنتَ يا مُريد , كأني مُنتصر في حلبة المصارعة , أنا لا أكتُمكم في البداية كنت مُطأطئ و نظري يصافح الأرض , لما رَفع يدي إلى الأعلى : أحسنتَ يامريد , ليش ايش سويت بدأت , قال الأستاذ إبراهيم : مريد هو الشخص الوحيد الذي وقف أمامكم و لم يتحدثْ و لم يقف منكم أي شخص و لم يتحدث منكم أي شخص , مريد وقف ولم تقفوا , الذي وقفَ اليوم ولم يتحدث يقف غداً و يتحدث , آآه صح : أقف غداً و أتحدث أنا لم أفشل أنا مررتُ بتجربة , الأستاذ إبراهيم جعلني انظر إلى التجربة من الزاوية الايجابية , جعلني انظر إليها من الزاوية المشرقة , ماذا تتوقعون النتيجة اليوم الثاني وبعد صلاة الظهر وقفتُ أمام الطلاب و قلت أما بعد ثم تحدثت و تكلمت , ترى لو أنني لم انظر إلى تلك التجربة بزاويةٍ ايجابية ما الذي كان سيحدث ؟ ما كنتُ سأقف أمامكم في هذه اللحظات . لن أنسى كلمةً أخيرة قرأتُها عندما كنتُ صغيراً في أحد الكتب قال مؤلفُ ذاك الكتاب ما احترق لسانٌ بقوله نار , و لا اغْتَنى فقيرٌ بقوله ألفَ دينار , قُل ألف دينار إلى الأسبوع القادم لن تجد في جيبك و لا حتى ديناراً واحداً , قل نار إلى الشهر القادم لن يحترق لسانك , و لكن قل فِكرتك بعد أن تُعمِلها في ذِهنك , تحدَّثْ بها , ثم اكتُبها , ثم خطِّط لتنفيذِها , ثُم انطلق بعزيمة , ستُحقِّق ذاتك , سَتصِل إلى ما تُريد و ستكون كما تُريد , و ذلك ما تُريدون , و ذلك ما أُريد .
اسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلنا كما نطمح و كما نأمل وكما نُريد أن نكون .
الحياة تجربة و صناعة الذات فكرة تخلق الأمل و الأمل لا بد أن يحذوه العمل وبذلك نستطيع أن نكون و نستطيع أن نحقق ذواتنا .
**********************************
كنتم مع رحلة صناعة الذات للدكتور مريد الكلاب .
good1
مواقع النشر (المفضلة)